حيواتنا المُسْتَلَبة برسم الإعلام!
في ظل ثورة المعلوماتية والاتصال التي تنتظم اليوم عالمنا منذ أكثر من ربع قرن، زاد انشغال عامة الناس بدرجات متزايدة بالكثير من المواد المثيرة التي تبثها منابر الوسائط الإلكترونية والتقليدية كقنوات التلفزة ووسائط التواصل الاجتماعي مثل اليوتيوب والفيسبوك وغيرها.
وفيما تؤكد فلسفة الإعلام وهوية اشتغاله الحقيقية في المجتمعات الحية والمنتجة، معادلةً مفادها: إن الإعلام إنما هو جزء رمزي عاكس لشريحة من صورة الحياة الواقعية (رغم أنه كإعلام يمثل خطابًا موجهًا ومرتبًا ومعدًا وفق أجندة توجيهية ناعمة ومؤثرة) فيما أصل الحياة المدنية الواقعية هي الجزء الأكبر والصلب في تلك المجتمعات عبر فضائها العام الخائض في غمار الأعمال والتعليم والقطاعات المدنية والسياسية والعسكرية، إلا أن معادلة الإعلام هذه تصبح معكوسة في مجتمعاتنا الناطقة بالعربية، بحيث يمكننا القول إن نظم إدراك التخلف الحاكمة لهوية تلك المجتمعات تأتي في صلب التمثلات التي يعبر عنها هذا الوضع المعكوس! فحين يظن كثيرون، في مجتمعاتنا؛ أن محتوى الخطاب الإعلامي -لاسيما عبر قوته الناعمة في خطاب الدراما والفنون- (الذي هو أيضا خطاب معد بطريقة تضمر أجندة صانعي محتواه) هو المُوَجِّه الفعلي لحياتهم، نسبة للتأثير الإيحائي لفنون الفرجة، فإن مفاعيل ذلك الظن في الحقيقة تعكس حقيقة أخرى أكثر خطرًا، هي الفراغ المُقَنَّعْ لحياة عامة غير منتجة للمعنى -في أغلب أحوالها- من حيث النسبة والتناسب المفترضين لامتلائها في فضاءات مختلفة وغنية كالقانون العام ومخرجات التعليم الديمقراطي الممتازة ومعايير ضبط جودة الحياة في التصورات والتصرفات العامة للناس وغير ذلك من الهوية العامة لحياة برسم الامتلاء (كالحياة التي يقترحها النموذج المنتج للمعنى في مجتمعات الغرب).
وهكذا سنجد أن ردود فعل وسائط الإعلام على فضاء حياة راكدة، كالتي وصفنا، من أخطر أنماط الاستلاب التي ستجعل من الانفعال المضلل بالخطاب الإعلامي أكثر سلبية على أحوالها بحيث تصبح مجموعة من الفذلكات المقلدة لمقولات يتداولها عامة الناس تقليدًا لأبطال الخطاب الدرامي للمسلسلات كما لو أنها نماذج تفسيرية للحياة، دون وعي أن تلك الحال من الاستلاب إنما هي فقط دالة على ركود الحياة وامتناعها عن أن تكون حياة سائلة بإنتاج للمعنى العام في فضائها المدني، وهي أحوال يكثر فيها التقليد والاستنساخ والخفة في التمثيلات المعبرة عن عامة الناس مع استيهام دائم بأن ذلك تقليد لحياة مجتمعات منتجة -كمجتمعات الغرب وفقط لأن كثيرين سيظنون أن الصورة التي ينتجها الإعلام والخطاب الدرامي للأفلام الأمريكية، مثلًا، هي عين الحياة الأمريكية لا صورتها المجتزأة بطريقة نسبية جدًا في خطاب فني ودرامي لا يمكنه أبدًا أن يكون بديلًا للحياة الواقعية الصلبة! فمن شأن المجتمعات التي تتغذى في حياتها على أوهام حياة راكدة تحت ضغط تأثير خطاب إعلامي طاغ، فيما تظن تلك المجتمعات في الوقت ذاته، أن صورة تلك الحياة المصورة في الخطاب الإعلامي والفني للمجتمعات الحية هي عين حياة تلك المجتمعات، هنا سنجد أنفسنا باستمرار أمام إعادة تمثيلات لامتناهية لأوهام وعي مأزوم لا يدرك حقيقة وجوهر الحياة.
وسنجد أن ما يفسر لنا الخيبات المتتالية لواقع أحوال مجتمعاتنا هو في الحقيقة نظم إدراك تعكس في وعيها ذلك الاستلاب باستمرار! إن اختراق نمط حياة راكد كهذا والاستيقاظ فيه من الاستلاب لخطاب الإعلام، يكمن أولًا في فضيلة النقد الذاتي والاجتماعي الحر، كما يكمن في التفكير ليس فقط بالتأمل في السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان قبل قرن ونصف: (لماذا تخلف العرب وتقدم الغرب) وإنما في سؤال أكثر تواضعًا مثل (كيف تأخر العرب وتقدمت سنغافورة) إذا عرفنا مثلًا أن سنغافورة حتى العام 1977 كانت جزيرة فقيرة لصيادي السمك! ففي ظل الإيحاء الذي يوهم البسطاء بأن وسائل التواصل الاجتماعي والطفرة الإعلامية جعلت من مجتمعاتنا والمجتمعات المتحضرة في مستوى واحد، على كل من يفكر بصدق أن يتأمل في السر الذي يجعل من حياة مجتمعاتنا على هذا النحو من الركود! وفي طريق البحث عن ذلك السر ستنتصب أمام الباحث أولوية واحدة هي أول ما تحتاجها مجتمعانا وهي: الحرية لأن الحرية بوابة لكل شيء.
فمن شأن الإيهام المضلل لوسائط التواصل الاجتماعي وخطاب الإعلام الطاغي بتأثيره على حيواتنا الراكدة أن تظل أوضاعنا في تلك الحياة قابلة للتواطؤ المستمر مع ذلك الاستيهام متى ما ظل التخلف حاكمًا لنظم إدراك مجتمعاتنا!
محمد جميل أحمد كاتب من السودان
