حوار مع مثقف ملحد في شهر رمضان

12 أبريل 2022
12 أبريل 2022

في يوم من أيام شهر رمضان التقيت واحدًا من المثقفين، ليس هو بصديق حميم، ولكني أعرفه منذ زمن طويل دون أن أعرف شيئًا عن إيمانه الديني؛ لأنني أرى أن مسألة الإيمان تخص المرء وحده وعلاقته بربه التي لا ينبغي أن ننشغل بها أو نفتش عنها. ما إن التقيته في نهار من أيام رمضان في مكتبه الذي يدير منه المقر الرئيس بالقاهرة لإحدى دور النشر الكبرى، حتى بادرني بالسؤال:

- ماذا تشرب؟

- قلت: إني صائم.

نظر إليَّ مندهشًا، فاغرًا فاهه، وكأنني قد نطقت كفرًا؛ ثم قال:

- حقًّا؟! إنني مصدوم منك.. لقد عكَّرت مِزاجي الآن.

قلت مندهشًا أنا الآخر: لماذا؟!

- قال: لأنني لم أكن أتصور أن تكون أنت تحديدًا- يا مَنْ كتبت عن مذاهب كبرى وفلاسفة كبار- مؤمنًا بهذه الخرافات! كبار الفلاسفة الذين كتبت عنهم لا يؤمنون بذلك، ولا بأي من المعتقدات الدينية الأخرى.. شوبنهاور، هيدجر، سارتر، وكثير من الفلاسفة الوجوديين، على سبيل المثال!

هنا أدركت على الفور أن صاحبنا هذا ملحد، فقلت:

- لقد خلطت بين أمور مختلفة، وأخطأت في أمور عديدة، وإليك البيان:

أولًا- إن مسألة الصوم لا ينبغي أن تستدعي دهشتك؛ لأن الصوم عبادة وممارسة للزهد في معظم الأديان الكبرى، ليس فحسب في الأديان السماوية، وإنما أيضًا في كثير من الديانات غير السماوية. وأنا- يا صديقي- أصوم رمضان وفقًا لعقيدتي؛ لأنني أريد أن أُبقِي على صلة تربطني بالله الذي يقول لنا: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به».. آه، لقد نسيت أنك لا تؤمن بالله، ولكن أجبني أيها المثقف المستنير الذي يؤمن بالحرية الإنسانية التي أكد عليها كل الفلاسفة الكبار الذين تتشدق بأسمائهم: لِم َ تستنكر علىَّ الإيمان بالله، وفلاسفتك الكبار يدعونك إلى حرية الاعتقاد، دع عنك قوله تعالى: «من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر»؟!

ثانيًا- معظم الفلاسفة كانوا مؤمنين: فكانط نفسه قد جعل الإيمان بوجود الله مسلمة من مسلمات العقل العملي؛ أي ضرورة لهذا العقل الذي يوجه سلوكنا الأخلاقي في الحياة العملية. وإذا كان هناك ما يُسمَّى بالوجودية الملحدة، فهناك في مقابلها ما يُسمى بالوجودية المؤمنة، وكلاهما يحمل السمات الكبرى التي تميز الفلسفة الوجودية. كما أن هيدجر- فيلسوف الوجود الأكبر- يفهم الله على طريقته باعتباره تجليًّا في الوجود نفسه، ففي مذهبه روح مذهب وحدة الوجود عند ابن العربي، وهناك كتابات كثيرة في هذا الأمر وفي البعد الصوفي في فلسفة هيدجر. كما أن الفكر الفلسفي المعاصر لم يعد منشغلًا بمسألة البرهنة على وجود الله كما هو الحال عند القدماء والمحدثين، وإنما بالوعي بالألوهية بوصفه خبرة إنسانية بالألوهية أو بالعالم الإلهي. إن معرفتك يا عزيزي بالفلاسفة ومذاهبهم معرفة سطحية.

ثالثًا- ثم، ما الذي يضيرك يا عزيزي ويكدر صفوك عند ذكر مسألة الإيمان؟ ما الذي يضيرك أن أومن أنا أو تؤمن أنت؟! لن أسوق لك براهين فلسفية تقليدية. وإن سألتني عن سبب إيماني، فسأقول لك: إن إيماني يستند إلى معرفة حدسية كشفية لا تحتاج إلى براهين عقلية.. يكفي أن أشاهد وأتأمل مباشرةً ذلك التنوع والتفرد معًا في سائر الكائنات الحية واللاحية من أدناها إلى أعلاها رتبةً، كل كائن من الكائنات يحمل توقيع الله الذي لا شبهة فيه. أدركت ذلك كله منذ صباي من خلال رؤية حدسية مباشرة لما أشاهده في العالم العياني، دون حاجة إلى تنظير عقلاني مجرد يعتمد على البراهين.

رابعًا- ثم دعني أسألك يا أخي: وما الذي يضيرك أنت في أن تؤمن؟ ماذا يضيرك أن تؤمن ولو وفقًا لمنطق الحساب النفعي الذي من المؤكد أنك تؤمن به؟ أولم تسمع بهذا المنطق في الاعتقاد لدى وليم جيمس الذي يعد واحدًا من الرواد الكبار للفلسفة الأمريكية؟ لقد رأى جيمس أن الاعتقاد في وجود الله- وفقًا لمنطق فلسفته البراجماتية أو العملية- هو اعتقاد نافع في حياتنا العملية؛ لأن من شأنه أن يبعث في نفوسنا الشعور بالطمأنينة والثقة والسلوى والتفاؤل. منطق الحساب النفعي في البرهنة على وجود الله قد جاء من قبل في ذلك البرهان المعروف باسم «رهان باسكال»، وهو الرهان الذي جاء قبل باسكال على لسان أبي العلاء بقوله:

قال المُنجِّم والطبيبُ كلاهما لا تُحشَر الأجساد، قلت إليكما

لو صَحَّ قَولُكما فلستُ بخاسرٍ أو صحَّ قولي فالخُسار عَليكُما

ومع أنني لا اعتد بهذا النوع من الإيمان الذي يتجرد من المعنى الحقيقي للإيمان باعتباره ما وقر في القلب، فإنني مع ذلك أدعوك إليه؛ لأنه- على الأقل- سوف يجنبك تلك الروح العدائية إزاء الإيمان.

ظل صاحبنا فاغرًا فاهه؛ ربما لأنه لم يكن يتوقع أن أُلقِي على مسامعه دروسًا تكشف عن المغالطات في كلامه، بدلًا من أن يهز كلامه قناعتي. أنهيت حديثي قائلًا: من حقك يا عزيزي أن تؤمن أو تكفر، ولكن ليس من حقك أن تطالبنا بأن نسلك المسلك الذي سلكت أو أن تلومنا على إيماننا بالله.