حصار ترامب للرئيس مادورو يعيد إلى الأذهان تاريخًا مظلمًا
02 نوفمبر 2025
02 نوفمبر 2025
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
للولايات المتحدة سجل طويل في محاولات تغيير الأنظمة في أمريكا اللاتينية سواء تحت شعار «مبدأ مونرو» في القرنين التاسع عشر وبدايات العشرين، أو في سياق الحرب على الشيوعية خلال الحرب الباردة. غير أن هذه الاستراتيجية نادرًا ما نجحت حتى حين بدت ناجحة في الظاهر؛ إذ خلّفت وراءها مرارة عميقة تجاه ما يُعرف في المنطقة بـ«العملاق الشمالي». ومع ذلك يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متحمّس لإعادة إحياء هذا التاريخ الملطّخ، وهذه المرة في فنزويلا.
شهدت المنطقة تدخلات عسكرية أمريكية في هاييتي (1915-1934)، وجمهورية الدومينيكان (1916-1924)، ونيكاراغوا (1926-1933). لكنّ النتيجة لم تكن الديمقراطية، بل ظهور طغاة دمويين مثل فرانسوا دوفالييه المعروف بـ«بابا دوك»، ورافاييل تروخيو، وأنستاسيو سوموزا. أما الانقلاب الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) عام 1954 ضد الرئيس المنتخب في غواتيمالا خاكوبو آربينز فقد أدى إلى حرب أهلية دموية استمرت ستة وثلاثين عامًا، وأسهم في دفع كثير من الشبان اللاتينيين نحو التطرف، ومنهم الطبيب الأرجنتيني تشي غيفارا الذي كان وقتها في غواتيمالا وشهد الانقلاب بنفسه.
وفي عام 1961 حاولت الاستخبارات الأمريكية إسقاط الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عبر عملية «خليج الخنازير»، فكانت واحدة من أفشل مغامرات واشنطن وأشدها إحراجًا للرئيس الجديد حينها جون كينيدي. وقد دفعت تلك المحاولة كاسترو إلى قبول نشر صواريخ نووية سوفييتية على الأراضي الكوبية لحماية نظامه من أي هجوم جديد، وهو ما أدى لاحقًا إلى أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
أحيانًا حققت واشنطن نجاحًا مؤقتًا حين استخدمت قوتها العسكرية الطاغية ضد دول صغيرة في عمليات خاطفة، كما حدث في غرينادا عام 1983، وبنما عام 1989. لكن فنزويلا ليست دولة صغيرة؛ فعدد سكانها يفوق قليلاً عدد سكان العراق عندما غزته القوات الأمريكية عام 2003، كما أن نظامها السياسي أظهر قدرة كبيرة على الصمود أمام محاولات الإطاحة به.
في عام 2019 حاولت إدارة ترامب الأولى تحريك انقلاب عسكري ضد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، لكنها فشلت. وبعد أن طهّر الأخير جيشه من الخصوم بات يُعتبر «محصنًا ضد الانقلابات». وهو في ظل ملاحقته بتهم تتعلق بتهريب المخدرات في الولايات المتحدة لن يترك السلطة طوعًا على الأرجح.
ومع ذلك أعلن ترامب مؤخرًا أنه أجاز لوكالة الاستخبارات المركزية تنفيذ «عملية سرية» جديدة ضد مادورو رغم أنه تساءل ساخرًا إن كان ينبغي تسميتها «عملية علنية». ولم يتضح ما إذا كانت التفويضات الرئاسية تخوّل الوكالة إسقاط مادورو فعليًا، لكن مجرد الإعلان عنها -كما قال ترامب نفسه- سيزيد «الضغط» على نظامه.
ويضاف إلى هذا الضغط وجود أسطول أمريكي ضخم في البحر الكاريبي يضم سفينة هجومية برمائية تقل مشاة بحرية، وطرادًا مزودًا بصواريخ موجهة، وثلاث مدمرات صاروخية، وغواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية، وسفينة لقوات العمليات الخاصة، وطائرات مسيّرة، ومروحيات إضافة إلى عشر مقاتلات من طراز «إف-35». كما حلّقت قاذفات من طراز «بي-1» و«بي-52» قرب السواحل الفنزويلية، ويتجه الآن أسطول حاملة طائرات إلى المنطقة.
استخدمت بعض هذه القطع لتدمير ما تصفه واشنطن بـ«قوارب تهريب مخدرات» معظمها قبالة سواحل فنزويلا في عمليات اعتبرها خبراء قانونيون -ومنهم محافظون- غير قانونية. ووفقًا لتقرير في صحيفة وول ستريت جورنال؛ فإن مسؤولين أمريكيين قالوا: إن الهدف المعلن لتلك الضربات هو «وقف تدفق المخدرات إلى الولايات المتحدة»، لكن الأمل الضمني هو أن تدفع حملة الضغط مادورو إلى الاستسلام والرحيل عن السلطة.
يبقى السؤال المطروح: لماذا يصر ترامب على إسقاط مادورو؟ من الصعب القول: إنه مدفوع بحماسٍ ديمقراطي على غرار جورج بوش الابن بالنظر إلى سياساته التي قوّضت الديمقراطية داخل بلاده ودعمه العلني لأنظمة استبدادية مثل نظام نجيب بوكيلي في السلفادور.
عندما سُئل ترامب عن سبب استهدافه لفنزويلا، أجاب: «السبب الأول أنهم أفرغوا سجونهم وأرسلوا نزلاءها إلى الولايات المتحدة، والثاني أن المخدرات تتدفق من فنزويلا». لكن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أشارت إلى أن فنزويلا «تلعب دورًا هامشيًا في تجارة المخدرات الإقليمية»، كما لا توجد أدلة على أن حكومة مادورو تعمّدت إرسال سجناء إلى أمريكا. وإذا كان الهدف وقف الهجرة من فنزويلا فإن إشعال أزمة سياسية فيها ليس الطريقة المناسبة لتحقيق ذلك. إنّ رفع العقوبات الأمريكية سيكون حلّا أنجع بلا شك.
حتى لو اعتبرنا مادورو ديكتاتورا، لكن يصعب اعتباره تهديدًا يستوجب تدخلًا عسكريًا. كما أن سياسة تغيير النظام التي يتبعها ترامب مليئة بالتناقضات التي ستقودها إلى الفشل. فإذا كانت الغارات البحرية تهدف إلى حرمان مادورو من عائدات المخدرات، فلماذا منحت الإدارة الأمريكية شركة «شيفرون» ترخيصًا لضخ النفط في فنزويلا؟ أليس ذلك ينعش خزينة النظام ذاته؟
وفوق ذلك يعزل ترامب الولايات المتحدة عن أقرب جيران فنزويلا؛ فقد فرض رسومًا جمركية بنسبة 50 في المائة على البرازيل في محاولة فاشلة لمنع محاكمة الرئيس السابق جايير بولسونارو حليفه القديم بتهمة محاولة الانقلاب. وهدد بقطع المساعدات عن كولومبيا بعد أن انتقد رئيسها اليساري غوستافو بيترو الضربات الأمريكية على قوارب التهريب. ورد ترامب بوصفه «المجنون المصاب بمشكلات عقلية كثيرة» و«زعيم المخدرات غير الشرعي»، كما فرضت وزارة الخزانة الأمريكية مؤخرا عقوبات عليه. وفي الثمانينيات كانت وكالة الاستخبارات المركزية تدعم متمردي نيكاراغوا انطلاقًا من قواعد في هندوراس المجاورة، أما اليوم فليس من المرجح أن تمدّ البرازيل أو كولومبيا يد العون لواشنطن بعد أن أفسد ترامب علاقاته مع قادتهما.
إذا كان ترامب يريد إحداث فرق حقيقي في فنزويلا فعليه أن يطلق حملة دبلوماسية علنية لدعم المعارضة الفنزويلية التي تقودها المناضلة ماريا كورينا ماتشادو الحائزة مؤخرًا على جائزة نوبل للسلام. لكن ذلك يتطلب إعادة النظر في مساعي إدارته لإغلاق مؤسسات الدبلوماسية العامة الأمريكية مثل «الوقف الوطني للديمقراطية» و«صوت أمريكا» وغيرها. أما السعي لإسقاط الأنظمة بالقوة أو عبر العمليات السرية فلن يجلب إلا نتائج عكسية، ويغذي مشاعر العداء للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية؛ فالتاريخ كما يذكّرنا دائمًا يقول: إن التغيير الحقيقي لا يأتي إلا من الداخل.
ماكس بوت كاتب عمود في صحيفة واشنطن بوست وزميل أول في مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤلف كتاب «ريغان: حياته وأسطورته» الذي اختارته صحيفة نيويورك تايمز ضمن أفضل عشرة كتب لعام 2024
الترجمة عن صحيفة واشنطن بوست
