حـروبٌ أهلية وإرهابية تحت الطلب!

12 يوليو 2023
12 يوليو 2023

في زمنٍ ليس بعيدا من اليوم، كان طلبُ الدّول الكبرى على حروبٍ بالوكالة يقتضيها دولا صغرى تكون لها الإِمْرةُ عليها، بحيث تستدرّ قبولَها لأداء ما تعرضه عليها (تلك الدّول الكبرى) من مهمّات محدّدة للإنجاز، ومن بينها خوض حروب نيابةً عنها ضدّ دولٍ أخرى (محسوبة على دولةٍ كبرى أخرى من الخصوم أو الأعداء).

ومعنى ذلك أنّه كان على تلك الدّول التي ستُطلَب منها خِـدْماتٌ من هذا النّوع السّاخن أن تكون تابعةً لها - كـدولةٍ كبرى - أو داخلةً في منظومة تحالفاتها الدّوليّة. كان يقع ذلك في الأحوال التي يكون فيها الطّلب صريحا أو مباشرا. غير أنّه يظلّ في دائرة الاحتمال أن تُسْتَـدْرَج دولةٌ مّا إلى فخّ الحرب بالوكالة من غير أن يكون ذلك مسبوقا بطلبٍ من أحد؛ والغالب على ذلك الاستدراج أن يجري من طريق تصيُّد ما بين الدّول الصّغرى من مشكلات، والنّفخِ في جمْراتها وصولا إلى إنضاج لحظة الصّدام. في الحاليْن معا، كان على تلك الحروب بالوكالة أن تندلع بين جيوش نظاميّة خاضعة لقرارات الدّول.

حصل تعديلٌ، اليوم، في الحروب التي تقع بالوكالة من غير أن ينتهي هذا النّموذج من الحروب. لم يعد شرطا أن يكون منفّـذوها من الصّغار: دولا تابعةً أو أنظمةً سياسيّة حليفة؛ بات يمكن أن توكَل إلى أيّ قـوّةٍ أخرى غير حليفة - بالمعنى الدّقيق للمحالفة - ولكنّ لها، مثل آمِـرِها، مصلحة في أن تخوضها. هذه واحدة؛ الثّانية أنّ من أصبحت تُوكَـلُ إليهم المهمّات القتاليّة لم يعودوا ممثَّـلين في قـوى من الدّولة - أو مؤسّسات - بل أضحوا ينتمون إلى المجتمع وينتظمون في جماعاتٍ من جماعاته. بعبارة أوضح؛ لم تَعُـد الجيوشُ النّظاميّة مَن ينهض بأداء مهمّة خوض حروب بالوكالة (أو للدّقّـة، لم تَعُـد وحدها تقوم بذلك)، بل انتقل هذا الدّور إلى قـوّتيْن من المجتمع جديدتين على مسرح حروب الوكالة: الجماعات الأهليّة المسلّحة التّابعة للعصبيّات المحليّة، والمليشيات المستورَدة من كلّ أصقاع الدّنيا إلى البلد الذي يُراد خوضُ الحرب على شعبه ودولته.

حرْبَا الوكالة الجديدتان تَحْملان، اليوم، اسميْن معلوميْن: الحرب الأهليّة، والحرب الإرهابيّة. والحربان تَيْناك ليستا جديدتين على الصّراعات في المجتمعات وفي العالم، بل شهدت عليهما البشريّة منذ مئات السّنين (خاصّة ظاهرة الحروب الأهليّة)، إلا أنّ ما جَـدَّ في شأنهما أنّهما استُـدخِلَتا في جملة ما تكون به الحروبُ حروبا بالوكالة، فما عَتَّم الطّلبُ عليهما، أو على واحدة منهما، أنِ ارتفع بعد تبيُّن النّتائج المَهُولة التي في وسع هاتين الحربين أن تتحصّلاها في البلاد التي يقع عليها فعلُ الحرب. ولقد زاد من معدّل الطّلب عليهما أنّ كلفةَ أيٍّ منهما زهيدةٌ على من يتوسّلها للقتال نيابةً عنه، وأنّ «قـوّة العمل القتاليّة» موفورة وجاهزة للتّجاوُب مع مَن يدفع. وقد لا يكون الخائضون في الحروب الأهليّة والحروب الإرهابيّة متواطئين، جميعهم، مع القوى الكبرى التي تحرِّكهم (= إذ قد يكون فيهم مغفَّـلون كثر ومُغَرَّرٌ بهم)، غير أنّ الذي لا مِرْية فيه أنّ الغفلة إذا كان لها أن تصيب جمهور المقاتلين الصّغار المخدوعين، فإنّ قيادات المليشيات المسلّحة: الأهليّة والإرهابيّة، تعرف ما عليها أن تفعله لصالح أولياء نعمتها لتدوم عليها النّعمة. وما أَهَـمَّ، عندها، إنْ كانت تؤدّي خِدْمات قذرة ضدّ أوطانها؛ إذ إنّ مَن يرفع السّلاح في وجه مجتمعه وأهله ودولته، يَبْطُل في وعيه معنى الوطن وتسقط عنده حُرمتُه.

ربّما ظُنَّ أنّ بين الحروب الأهليّة والحروب الإرهابيّة فارقا في الدّواعي والأسباب يَحْسُن بالتّحليل أخْذُه في الحسبان. وبيانُ هذا الظن أنّ للحروب الأهليّة بعضا ممّا يَحْمِل على فهْمها - من دون تبريرها طبعا - لجهة اتّصالها بأوضاع فاسدة داخل الاجتماع الوطنيّ أو الأهليّ، هي عينُها التي تُـفضي بجماعات اجتماعيّة إلى الدّخول في حالٍ من الاحتـراب. والغالب على تلك الأوضاع الفاسدة - والمُفْسِدة للعلاقات الاجتماعيّة البينيّة - أنّها تأتي ثمرة تسلُّطٍ فئويّ لجماعةٍ أهليّة على أخرى، واستئثار بالسّلطة والثّروة، الأمر الذي يولِّد لدى الأخرى شعورا بالغَبْـن والمظلوميّة فيدفع بها إلى نوع من الدّفاع الذّاتي العنيف يكون مطافُه الأخير إنتاجُ تلك الحالة الانفجاريّة التي هي الحرب الأهليّة. وهذا صحيح من وجْهٍ، ولكن مَن ينفي أنّ الجماعات المسلّحة - العقائديّة والإرهابيّة - تقدّم نفسها بوصفها إمّا جماعات «جهاديّة» تقوم بإنفاذ مبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر ضدّ سلطةٍ «خارجة عن الشّرع»، وإمّا جماعات قـتاليّة تزعم لنفسها «نضالا من أجل الدّيمقراطيّة» أُجْبرت على أن تخرُج به من الشّارع والحالة الشّعبيّة الاحتجاجيّة إلى حيث تمتشق السّلاح «ردّا على عنف السّلطة الأمنيّ والعسكريّ»؟ بعبارة أخرى، مَن ينفي أنّها تبرّر عنفها البشع بعوامل داخليّة: سياسيّة، اجتماعيّة - ثقافيّة، أمنيّة (على نحو ما شهدنا على أفعالها النّكراء في بلدان «الرّبيع العربيّ»، تماما مثلما تبرّرهُ العصبيّاتُ المنغمسة في حمّامات الدّم في بلدانها المنكوبة بالحروب الأهليّة؟

نحن لا ننفي، طبعا، أن تكون للحروب الأهليّة أسبابٌ وعوامل داخليّة تتعلّق بسيطرة العلاقات العصبويّة (القبليّة والعشائريّة والأقواميّة والطّائفيّة والمذهبيّة...)، أو بتكوين السّلطة على أساسٍ من توازنات هشّة بين الجماعات الأهليّة؛ ولكنّ هذه المشكلات ليست كافية لإنتاج حالةِ حربٍ داخليّة وإلا كان على القسم الأكبر من مجتمعات العالم أن يشهد على حروب أهليّة؛ حيث مجتمعاتُه زاخرةٌ بكلّ أنواع الفسيفساء الاجتماعيّة: من مذاهب وطوائف وأعراق وقِلاّت من كلّ نوع. وآيُ ذلك أنّ مجتمعات الحروب الأهليّة عاشت، لأزمنة ممتدّة، مشكلاتها الدّاخليّة تلك من دون أن تنفجر فيها حروبٌ أهليّة في الماضي. وهذا، بالذّات، هو ما يُظْهِرنا على دور العامل الخارجيّ في تنمية التّناقضات الأهليّة الدّاخليّة والوصول بها إلى لحظة الانفجار، مثلما يُظْهِرنا على دوره في تنمية الحالة المسلّحة الإرهابيّة والانتقال بها من حدود العصابة (= الجماعة الصّغيرة) إلى المليشيا، ثمّ من المليشيا إلى ما يشبه الجيش النّظاميّ.

الجماعات الإرهابيّة والمليشيات الأهليّة هي، اليوم، مَن تُوكَلُ إليها مهمّات خوض الحروب نيابةً عمّن يسخِّرها لهذا الغرض؛ إذْ هي الأدوات الأفعـل للفتك بدولٍ ومجتمعات يراد لها أن تَـتَفَكَّك؛ فهي أدواتُ فتْـكٍ من الدّاخل وقواها إمّا من الأهالي أو من مرتزقة مستوردين، ولا يكلّفون من يسخّرونهم الكثيرَ ممّا يكلّفهم تسخيرُ جيوش نظاميّة. ولقد كانت بلدانٌ من الوطن العربيّ - وعلى مدار عقدٍ ويزيد من الزّمان - حقْـلَ تجريبٍ لحروبٍ خارجيّة تتوسّل الجماعات المسلّحة الإرهابيّة، مثلما كانت - منذ حرب لبنان الدّاخليّة (1975) حتّى اليوم - حقْـلَ اختبارٍ لقدرة الحرب الأهليّة على الفتك بالمجتمع والدّولة والعودة بهما إلى وراء الوراء، وفتح مصيرهما على المجهول. ألم نختبر ذلك في لبنانَ والسّودان والعراق وليبيا واليمن...؟!