حرب أوكرانيا صدمة اقتصادية متعددة الجوانب

09 مايو 2022
09 مايو 2022

ترجمة ـ قاسم مكي

الحروب إلى جانب كونها حروبًا هي أيضًا صدمات اقتصادية كبيرة. فحرب فيتنام زعزعت أوضاع المالية العامة في الولايات المتحدة، وتسببت الحرب الكورية (1950-1953) وحرب أكتوبر 1973 في زيادات ضخمة في أسعار السلع الحيوية.

هذه المرة هنالك أيضًا حرب ترفع معدلات التضخم، وتقود انخفاضات حادة في الدخول الحقيقية للمستهلكين. فطرفا هذه الحرب هما روسيا بلد التصدير الضخم لموارد الطاقة، وأوكرانيا المصدر المهم للعديد من السلع الأخرى خصوصًا الحبوب.

ما هو أكثر أهمية أن الحرب أضافت المزيد إلى الضغوطات المتغلغلة في الاقتصادات والعلاقات الدولية والحوكمة العالمية. فالخروج الجماعي لوزراء البلدان الغربية ومسؤولي بنوكها المركزية من اجتماع مجموعة الـ(7) في الشهر الماضي أثناء إلقاء الوفد الروسي كلمته كان تذكيرًا مُلفِتا للانتباه بانقسام عالمنا.

حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا لم يتعافَ العالم من التكاليف الاقتصادية لـ(كوفيد 19) وآثاره الاجتماعية والسياسية الأوسع نطاقا. فتعطل الإمدادات تفشَّى، وارتفع معدل التضخم إلى مستويات غير متوقعة. ومن المقرر أن تشهد السياسة النقدية تشديدا بالغا.

وكان خطر الانكماش الذي فاقمته أوضاع العجز عن سداد الديون والاضطراب المالي مرتفعا.

هذه الحرب أعقبت الوباء (جائحة كوفيد)، وهي تهدد بالمجاعة الحرب والوباء والمجاعة ثلاثة من أحكام القضاء (النبوءات) الكارثية الأربعة التي وردت في «سفر حزقيال». العقوبة الرابعة هي للأسف الموت الذي ينجم عن الأحكام الثلاثة الأخرى. فالحرب باختصار هي مضاعف اضطرابات في عالم مضطرب سلفا.

اقتصاديًا، يتسرب تأثير الحرب عبر خمس قنوات رئيسية هي ارتفاع أسعار السلع، وتعطل التجارة وعدم الاستقرار المالي والأثر الإنساني، خصوصا اقتلاع ملايين اللاجئين، وسياسات الرد (على المعتدي) وأهمها العقوبات كل هذه الأشياء أيضا تثير البلبلة.

في آخر تقييماته لاقتصاد العالم، خفَّض صندوق النقد الدولي من المعدلات المتوقعة للنمو الاقتصادي، ورفع من معدل التضخم الذي يتوقعه وذلك للمرة الثانية على التوالي. فبعد فرحة التعافي السريع والمفاجئ من الانكماشات التي تسبب فيها كوفيد في عام 2020 شاعت خيبة الأمل. وها نحن للأسف ننحدر الآن في مسار يقودنا إلى عالم منقسم ومضطرب وخطر.

لقد تم خفض معدلات نمو اقتصاد العالم المتوقعة لهذا العام بحوالى1.3 نقطة مئوية منذ أكتوبر 2021. بالنسبة لبلدان الدخول المرتفعة تقلص المعدل المتوقع بحوالى 1.2 نقطة مئوية وللبلدان الصاعدة والنامية بنسبة 1.3 %، أيضًا تقديرات الإنتاج المحتمل عموما أقل من توقعات ما قبل الجائحة.

إلى ذلك ارتفعت تقديرات التضخم بشدة، فمن المتوقع الآن أن يصل معدله إلى 5.7% في اقتصادات الدخول المرتفعة وإلى 8.7% في البلدان الصاعدة والنامية.

هذا ليس ناتجًا عن ارتفاع أسعار السلع أو شحٍّ في الإمدادات، فكما يؤكد جيسون فيرمان الأستاذ بمدرسة كيندي للحكم في جامعة هارفارد هذا التضخم «مدفوع بالطلب ومستمر». فمثلما حدث في أعوام السبعينات يمكن أن يغذي الطلبُ القوي «دوامة ارتفاع في الأجور والأسعار» مع سعي العاملين إلى الحفاظ على دخولهم الحقيقية.

لا يرى صندوق النقد الدولي ذلك، فهو يعتقد أن النفط أقل أهمية بكثير عما في السابق وأسواقَ العمل تغيرت والبنوكَ المركزية مستقلة كل هذا صحيح، لكن رغم ذلك قد تنشأ عن التفاعل بين أخطاء السياسات وصدمات الإمداد فوضى تضخم ركودي(تضخم الأسعار وركود النمو).

ليس من الصعب تخيل نتائج أسوأ بكثير من تلك التي أشار إليها صندوق النقد الدولي في تقرير توقعاته التي بناها على افتراضات من بينها اقتصار الحرب على أوكرانيا، وعدم إضافة المزيد من العقوبات على روسيا، وعدم تفشي شكل آخر (سلالة) أكثر خطورة من كوفيد، وتواضع القيود التي ستفرض على السياسة النقدية، وعدم نشوب أزمات مالية كبيرة، وفي الواقع من الممكن ألا تتحقق كل هذه الآمال.

هنالك قضية ضخمة تتعلق برفاهية البشر إن لم تكن باقتصاد العالم، وهي احتمال تعرض البلدان الصاعدة والنامية وخصوصًا تلك التي تضررت من ارتفاع أسعار السلع إلى عسر مالي. (العسر المالي أو الضائقة المالية هي الحالة التي يعجز فيها بلد ما عن الحصول على إيرادات كافية لمقابلة أو سداد التزاماته المالية، وينطبق هذا المفهوم على الأفراد والشركات أيضًا- المترجم).

وكما يشير تقرير الاستقرار المالي العالمي فإن 25% ممن يقومون بإصدار الديون المقوَّمة بالعملة الصعبة لديهم أصلا مطلوبات مالية يتم تداولها باعتبارها ديونا متعثرة السداد. وعلى الغرب الآن مساعدة البلدان الصاعدة والنامية المتضررة من الأزمة بطريقة أفضل كثيرا مما فعل في مواجهته لكوفيد.

أحد الجوانب الإيجابية للكوارث الأخيرة أن الدكتاتورية المطلقة فقدت صدقيتها، فتركيز السلطة في يد إنسان واحد غير معصوم مخاطرة كبيرة في أفضل الأحوال وكارثة في أسوئها، ونظام بوتين تذكير مخيف بما يمكن أن يحدث في مثل هذا النظام، لكن محاولة شي جينينج القضاء على فيروس شديد العدوى وليس خطرًا بشكل خاص من بلده مؤشر آخر لما يمكن أن تفعله السلطة غير المقيدة. الديموقراطية لم تجلل نفسها بالمجد والعظمة، لكن على الأقل يمكن إقصاء قادتها.

نحن نتشاطر الكوكب مع هذه الأنظمة وخصوصا نظام الصين فهي قوة عظمى بعكس روسيا، وليست مجرد قوة لديها آلاف الرؤوس النووية على أقل تقدير، سيحتاج الغرب إلى التعاون مع الصين في إدارة مديونية البلدان النامية.

نحن أساسًا بحاجة إلى السلام والازدهار وحماية الكوكب، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف بدون قدر من التعاون.

ترمز مؤسسات «بريتون وودز» إلى محاولة تحقيق ذلك قبل 20 عامًا مضت، كان العديدون يأملون في أن نكون ماضين في سبيلنا إلى ما كانت تحتاجه الإنسانية، لكن للأسف ها نحن مرة أخرى ننحدر نحو عالم الانقسام والاضطراب والأخطار.

إذا لم تحدُث صدمات أخرى سيتم التغلب على الاضطرابات الحالية، لكننا على أية حال نبهنا بأن الصدمات الضخمة يمكن أن تحدث، وأنها ستكون سلبية دائما تقريبا ويجب مقاومة روسيا، لكن إذا لم نتمكن من الحفاظ على الحد الأدنى من التعاون من المستبعد أن يطيب لنا العيش في العالم الذي سينتهي بنا المطاف إلى اقتسامه.

مارتن وولف كبير معلقي الشئون الاقتصادية بصحيفة الفاينانشال تايمز