جرائم لا تسقط بالتقادم

03 فبراير 2024
03 فبراير 2024

قرأت مند ثمانينيات القرن الماضي كتاب المؤرخ اللبناني أسد رستم (١٨٧٩-١٩٦٥)، (تاريخ بلاد الشام)، وهو من أهم الكتب التي تناولت تاريخ الشام، وخصوصا في ظل تبعيتها لمصر في عهد محمد علي، وقد توقفت كثيرا عند قضية خطيرة أوردها المؤرخ في هذا الكتاب، حينما روى أحداث قصة غريبة وثق كل وقائعها من خلال سجلات المحاكم الشرعية في القاهرة وحلب ودمشق (١٩٢٧)، وقعت هذه الأحداث في ٦ أبريل ١٨٤٠، عندما تخلف (الأب توما الكبوشي)، راعي الكنيسة الكاثوليكية في دمشق عن حضور مأدبة عشاء في الحي المسيحي، وراح أصدقاؤه ورجال الكنيسة يبحثون عنه لكن دون جدوى، ثم ذهب خادمه (إبراهيم) بعد أن شعر بالقلق على سيده للبحث عنه، وراح يسأل في كل الأماكن التي كان يرتادها الأب توما، ومن بينها حارة اليهود التي اعتاد الرجل التردد عليها لعلاج سكانها وتقديم الأدوية لهم، فقد كان مشهورا بخبرته في الطب، وخصوصا طب الأطفال، إلا أن الخادم (إبراهيم) اختفى هو الآخر عقب دخوله حارة اليهود.

كتب الوالي المصري على دمشق (شريف باشا) رسالة إلى محمد علي، يخبره فيها باختفاء الأب توما وخادمه عقب دخولهما حارة اليهود، وجه الوالي المصري نحو مزيد من البحث ومعرفة ظروف اختفاء الأب توما، الذي كان محمد علي يعرفه معرفة شخصية، وقد سبق أن استدعاه من دمشق لعلاج أحد أبنائه (طوسون)، بعدها أصبح موضوع اختفاء توما حديث مدينة دمشق كلها، وراح رجال الشرطة يستجوبون كل من رأى الأب وخادمه آخر مرة، وقد تبين من شهادة الشهود أن الأب دخل حارة اليهود ولم يره أحد بعدها، ثم ذهب خادمه إبراهيم للبحث عنه ودخل نفس الحارة ثم اختفى هو الآخر. وقد أثار هذا الموضوع عناية القنصل الفرنسي، بحكم أن الرجل كان راعيا للكنيسة الكاثوليكية، وهي تابعة للكنيسة الفرنسية في باريس، والأب توما نفسه كان من رعايا فرنسا.

راحت السلطات تستدعي وجهاء اليهود، ورصدت مكافأة مالية لكل من يدلي بمعلومات مفيدة عن سر اختفاء الرجلين، وقد تبين من شهادات الشهود ضلوع اليهود في قتل الرجلين! وراحت المراسلات بين محمد علي والوالي المصري على بلاد الشام (شريف باشا) تشير إلى ضلوع حاخامات اليهود في قتل الرجلين، بعد أن عُثر على بقايا عظامهما وقد وزعت على مجاري دمشق، راحت الشرطة تجمع مزيدا من المعلومات وقد تبين للمحققين أن الرجلين قد ذبحا وصُفيت دماؤهما في إناء كبير صنع منه الحاخام اليهودي ما يسمى بفطائر (الفصح اليهودي) وفقا لطقوس دينية بغرض صناعة خبز من دم الأغيار! وقد اعترف المتهمون بالجريمة بكل تفاصيلها وفقا لمحاضر التحقيق التي تلقاها محمد علي من واليه على دمشق، بعد أن ثبت ضلوع الحاخام ورجاله في القضية، عندما كان الأب توما يزور أحد مرضاه في حارة اليهود، وبينما هو عائد التقى بصديقه (داود هراري) وعمه وشخصين آخرين، وقد دعاه إلى منزله، بعدها هجم عليه الجميع وقيدوه من قدميه ووضعوا منديلا على فمه، ثم استدعوا حلاقا يهوديا (سليمان) وأمره هراري بذبح القسيس، فتردد الرجل، فما كان من داود هراري إلا أن أخذ السكين ونحر الضحية بنفسه، ثم أقدم شقيقه هارون على مساعدته وأجهزا على الرجل، وأسكبوا دمه في وعاء سلموه إلى الحاخام (يعقوب العنتابي)، لكي يصنع منه الفطير بمناسبة عيد (البوريم)، الذي كان يصادف يوم ١٤ فبراير .

أثارت هذه القضية اهتمام العالم، ولا تزال حتى اليوم موضع عناية المؤرخين والباحثين، وقد سجل وقائعها المؤرخ (أسد رستم) سواء ما سجلته وثائق المحاكم الشرعية أو ما ورد في رسائل الوالي المصري في الشام إلى محمد علي، بعدها وردت هذه الأحداث في كتب كثيرة، لعل من بينها ما كتبه وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس (١٩٨٦) في كتابه بعنوان (فطير صهيون) وقد أثار هذا الكتاب حفيظة زعماء اليهود في العالم، إلا أن كثيرا من المؤرخين الأجانب تناولوا هذا الموضوع باستفاضة، رغم أن الكثير من الدول الأوروبية قد حاولت نفي الجريمة، وقد نجح الفرنسي Adolphe Creniemieux والبريطاني Moseshaim Montefiore وكلاهما يهوديان إلى الحضور إلى القاهرة لمقابلة محمد علي، باعتبارهما وسيطين من الحكومتين الفرنسية والبريطانية، بعدها صدرت تعليمات بالإفراج عن جميع المتهمين، وهو الإجراء الذي تم بموافقة السلطان العثماني (عبد المجيد)، وخصوصا أن هذه الأحداث قد واكبت عقد مؤتمر لندن (١٨٤٠-١٨٤١)، بشأن المسألة المصرية، التي أقر فيها المؤتمر بتقليم أظافر محمد علي، وخروجه من بلاد الشام مقابل ولاية الحكم في مصر لأسرته وترسيم الحدود المصرية التي أخرجت بلاد الشام عن تبعيتها لمصر، وهي صفقة لعب فيها اليهود دورا خطيرا بهدف إنقاذ سمعتهم من قضية (فطائر الدم) التي أثارت اهتمام العالم وقتئذ.

بقيت الحقائق والأدلة وشهادات الشهود وأحداث القضية بكل تفاصيلها فيما كتبه المؤرخون الذين اعتمدوا على مجمل الوثائق التي وثقت كل تفاصيل القضية، وقد أتيح لي شخصيا في عام ٢٠٠٣، الاطلاع على أوراق القضية برمتها كما سجلتها الوثائق من خلال مراسلات الوالي المصري شريف باشا ومحمد علي، الذي اعتاد أن يكتب إلى واليه على بلاد الشام، ثم يتلقى منه المراسلات يوما بيوم، وقد سجلت هذه الوثائق أحداث القضية بكل تفاصيلها، بداية من أول رسالة أخبر فيها الوالي باختفاء الأب توما وخادمه، وانتهاء بآخر رسالة التي تؤكد خضوع الجناة إلى التحقيق واعترافهم بكل ما ارتكبوه في هذه الجريمة، التي لم تكن جريمة جنائية فقط، وإنما كانت جريمة ذات طبيعة خاصة تتعلق بثقافة القتل وصناعة الخبز من دم الأغيار، مسلمين أو مسيحيين، وهي ثقافة تنم عن قدر هائل من الانحراف، وهي جريمة لا تقرها جوهر العقيدة اليهودية ولا أي دين آخر.

بذلت الدول الأوروبية جهدا كبيرا في غلق هذا الملف، ومارست ضغوطا هائلة على السلطان عبد المجيد وعلى محمد علي، في وقت كان القادة الأوروبيون يجتمعون في لندن للنظر في مصير حكم محمد علي وأسرته، في الوقت نفسه الذي كان يتم فيه التحقيق في القضية، ومورست ضغوطا هائلة على الرجلين (الوالي والسلطان) وقد رضخ كلاهما للضغوط الأوروبية، بعد أن اكتفى المحققون بجمع الأدلة وسماع شهادة الشهود، وجميعها تؤكد وقوع الحادثة، إلا أن أوامر الوالي المصري محمد علي قد صدرت بغلق الملف والإفراج عن المتهمين.

إذا كان غلق هذا الملف قد تم تحت ضغط الدول الأوروبية لأسباب سياسية خالصة، وهو ما يفسر تأثير اليهود في المجتمعات الأوروبية، ورغم مرور أكثر من مائة وثمانين عاما على هذه الأحداث- إلا أن نفوذ اليهود في المجتمعات الأمريكية والأوروبية لا يزال قويا، وهو ما يؤكد حتى اليوم ضلوع هذه القوى في دعم الصهيونية التي تمارس الإبادة ساعة بعد أخرى في فلسطين، تحت غطاء دولي، وبدعم من القوى الأوروبية والأمريكية ذاتها، إلا أن هذه القضية وقضايا أخرى كثيرة لا يمكن أن تسقط بالتقادم.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).