ترامب و«لعنة» الإعلام الاجتماعي
يأبى بعض السياسيين أن يكونوا مثل غالبية البشر الذين عندما يتقاعدون من وظائفهم يركنون إلى الراحة والاستمتاع بما بقي من أعمارهم. لا يكتفي البعض بلقب رئيس أو وزير أو نائب سابق، ويستمر في اللهاث وراء سراب الشهرة، ويسابق الزمن ليثبت للجميع أنه ما زال حاضرا وبقوة في المشهد السياسي دون أن يدرك أن كل ما يفعله بعد مغادرة منصبه يكون خصما من رصيده لدى الناس.
ولعل أبرز مثال على ذلك الرئيس الأمريكي السابق المثير للجدل دونالد ترامب. قد يكون من السهل على كل سياسي يخرج من السلطة أن يسير على خطى ترامب وينشئ شبكة تواصل اجتماعي خاصة مثل شبكة «تروث سوشيال» أو منصة «الحقيقة الاجتماعية»، يجمع عليها أنصاره وينشر عليها تغريداته، ولكن من الصعب أن يضمن لها الانتشار، ومواجهة هيمنة الشبكات الاجتماعية العملاقة الأكثر رسوخا واستخداما مثل تويتر وفيسبوك.
شبكة ترامب الاجتماعية الجديدة التي انطلقت العام الماضي تواجه مشكلات تقنية ومالية عديدة تجعلها غير قادرة على منافسة الشبكات العملاقة التي سبق وأن أوقفت حساباته نهائيا ومنعته من استخدامها. ويفتح فشل شبكة ترامب الجديدة الباب للحديث عن العلاقة غير السوية التي قد تجمع أحيانا بين السياسي وبين وسائل الإعلام بما فيها وسائل الإعلام الجديدة، خاصة عندما يكون الدافع لدخول السياسي المجال الإعلامي هو الانتقام من وسائل اتصالية معينة.
ترامب الذي شغل العالم عندما كان رئيسا للولايات المتحدة لمدة أربع سنوات، وحتى بعد أن خرج من البيت الأبيض، أدرك مبكرا بسبب علاقته السيئة مع الإعلام طوال فترة رئاسته وبعد خسارته للانتخابات الرئاسية الأخيرة، أن وسائل الإعلام التقليدية منها والجديدة لعبت دورا رئيسا في هزيمته. ولذلك كان أول ما فكر فيه بعد أن أوقفت الشبكات الاجتماعية الكبيرة حساباته بعد هجوم أنصاره على مبنى الكونجرس، هو أن يكون له شبكته الخاصة التي يجمع عليها أنصاره وينشر عليها ما يريد دون رقابة من أحد. وحتى يتمكن من ذلك أنشأ في أكتوبر من العام الماضي (2021) مجموعة ترامب للإعلام والتكنولوجيا، ومن خلال هذه المجموعة أنشأ منصة «تروث الاجتماعية» لتكون منصة بديلة لا تخضع للرقابة مثل المنصات العالمية المعروفة تويتر وفيسبوك.
ووفقا لموقع ويكيبيديا فإن منصة ترامب التي أطلقت في21 فبراير 2021 تحتل حاليا المرتبة 25 في قائمة تطبيقات الشبكات الإعلامية في متجر أبل. ورغم أنه من المبكر الحكم على المنصة بالنجاح أو الفشل بعد الفترة القصيرة نسبيا التي عاشتها، فإن من المؤكد وفقا لتقارير عديدة أنها تواجه مشكلات مالية وتشريعية معقدة، وينتشر عليها المحتوى الذي يدعو للكراهية والعنف، في وقت تبدو فيه غير قادرة على الإشراف الكافي على المحتوى، نتيجة عدم وجود موارد مالية مخصصة لذلك، ولعل هذا هو ما دفع متجر «جوجل بلاي» إلى رفض إضافتها إلى المتجر حتى اليوم.
واقع الحال أن وجود ترامب على رأس تلك الشبكة هو السبب الرئيسي لكل ما يحيط بها من شكوك ومشكلات. ففور ظهورها نظرت إليها وسائل الإعلام العالمية الكبيرة مثل صحيفة «الإندبندنت» على أنها «تهديد محتمل للديمقراطية»، وقالت عنها شبكة «سي إن إن» التلفزيونية، إنها «ولدت وهي محكوم عليها بالفشل بسبب ارتباطها بالرئيس السابق صاحب السوابق في تحد الخيارات الديمقراطية»، وشككت صحيفة «نيويورك تايمز» في قدرتها على منافسة التطبيقات المشابهة والراسخة منذ سنوات.
تؤكد تجربة منصة ترامب الاجتماعية المتعثرة أن مشكلة وسائل الإعلام التي يُنشئها سياسيون سابقون تتمثل في هؤلاء السياسيين أنفسهم، الذين يكرهون الإعلام ويحملون داخلهم دوافع قوية للانتقام منه ومن العاملين فيه، نتيجة قناعة غير صحيحة في الغالب بأنه كان سببا رئيسا لخروجهم من السلطة. وعلى هذا الأساس فإن أكبر مشكلة تواجه منصة «تروث سوشيال» هي ترامب نفسه، الذي كان يظن أن وجوده على رأسها سيكون أكبر عامل جذب لها.
يُعدد تقرير نشرته مجلة تايم الأمريكية الأسبوع الماضي المشكلات التي تعاني منها منصة الرئيس السابق، وأهمها عدم المصداقية. فالمنصة التي تعلن عن نفسها بأنها ملجأ لحرية التعبير، دأبت كما يقول مستخدموها على إلغاء حسابات البعض منهم بسبب مشاركة محتوى حول جلسات استماع هجمات السادس من يناير على مبنى الكونجرس المتهم فيها ترامب وأنصاره. في مقابل ذلك تفتح المنصة الباب واسعا أمام الآراء المتوافقة مع سياسات ترامب ورؤاه، وكذلك المنشورات التي تدعو إلى العنف وتحرض عليه. وتتضمن شروط استخدام المنصة نصا يضرب حرية التعبير في مقتل، ويتيح لها أن تقبل أو ترفض أو تزيل المحتوى التفاعلي وفقا لتقديرها الخاص. وإلى جانب ذلك فإن المنصة ما زالت تستهدف جمهورا صغيرا، كونها تركز على أنصار ترامب والمتعاطفين معه وغلاة المحافظين، وهو ما يعيق وصولها إلى جميع فئات المستخدمين الذين تختلف آراؤهم السياسية مع ترامب وأنصاره، وهو ما يجعلها أقرب إلى غرف المحادثة الخاصة الخالية تماما من التنوع في الآراء والمحتوى، ويجعل نموها وانتشارها سواء على المستوى الأمريكي أو العالمي محدودا للغاية، وبالتالي غير مربحة. وقد فشلت المنصة بالفعل في جذب المعلنين الذين لا يرحبون بالإعلان في منصات اجتماعية صغيرة تنتقي مستخدميها بناء على خلفياتهم السياسية.
إن فشل منصة ترامب في أن تكون بديلا له للوصول إلى الناس يتضح أكثر عندما نقارن عدد متابعيه عليها الذي لا يتجاوز الملايين الأربعة، بعدد متابعيه على منصة تويتر الذي بلغ ثمانين مليونا قبل أن يتم حظر حسابه نهائيًا في يناير2021. ومن المتوقع أن تواجه المنصة مزيدا من الخسائر، وقد تخرج من السوق تماما إذا استمرت شعبية ترامب في التراجع، إذ إن حياتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بشخص الرئيس السابق وشعبيته. وقد شهد سهم الشركة المسؤولة عن المنصة انخفاضا كبيرا بلغ 75% منذ مارس الماضي، كما بلغت خسائرها نحو 6.5 مليون دولار في النصف الأول من العام الحالي، وتوقفت عن دفع مستحقات الشركة التي تستضيف خدمات الموقع، وأصبحت مدينة لها بأكثر من مليون دولار، وانخفض عدد المشاهدات عليها من 1.5 مليون إلى نحو 300 ألف مشاهدة في اليوم الواحد.
تؤكد الحقائق السابقة أن السياسيين خاصة السابقين منهم، والحالمين بالعودة إلى كراسي السلطة غالبا ما يفشلون عندما يتحدون وسائل الإعلام، حتى وإن ساعدتهم إمكاناتهم المالية والجماهيرية على إنشاء وسائل إعلام بديلة. صحيح أن ترامب لا يدير المنصة بنفسه ولا يشرف إشرافا مباشرا على محتواها، ولكن مجرد ارتباطها به وارتباطه بها كان السبب الرئيس لكل المشكلات التي تواجهها منذ انطلاقها. وهو ما دفع جمهور المستخدمين إلى عدم اللجوء إليها بأعداد كبيرة كبديل عن الشبكات الاجتماعية الشهيرة، وجعلها شبه منتدى خاص لأتباعه وأنصاره وحرمها من الانتشار الجماهيري الواسع.
لقد كان من الأجدى لرئيس سابق يواجه تحقيقات جدية في دوره في هجمات السادس من يناير على الكونجرس الأمريكي، وأخرى تتعلق بإخفائه وثائق رسمية بعد إخفاقه في الانتخابات أن يتفرغ لمعاركه القضائية، ثم يخلد بعد ذلك إلى الراحة والاستجمام والاستمتاع بثروته، ولكنها النفس البشرية الغريبة التي يتمتع بها السياسيون ربما دون غيرهم من البشر، والتي تأبي إلا أن تكون في « كبد» دائم.
