ترامب وبوتين يحاصران ديمقراطيات أوروبا
29 سبتمبر 2025
ترجمة: أحمد شافعي
29 سبتمبر 2025
قد لا يبدو أغسطس من عام 1939 بعيدا للغاية في نظر الكثير من شعوب أوروبا الشرقية. وقد كان ذلك هو الشهر الذي أبرمت فيه ألمانيا هتلر والاتحاد السوفييتي الستاليني اتفاقا سريا على أن يقسما بولندا، وعلى أن يخضعا بالقوة جمهوريات البلطيق وفنلندا ذات السيادة، وإدخالها جميعا في «مجالي نفوذهما». ولا يخفى على العالم كله ما حدث في أعقاب ذلك.
والآن يثار السؤال: هل يتكرر هذا الأمر من جديد؟ في هذه المرة تقوم الولايات المتحدة في ظل حكم دونالد ترامب وروسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين بالانخراط في لعبة قوة جيوسياسية كبيرة، ومرة أخرى تكون أوروبا بأكملها هي الفريسة المحتملة. وعلى الرغم من سجال الأسبوع الماضي بشأن أوكرانيا تبدو أهداف الزعيمين الجوهرية شديدة التقارب.
لا يمثل إخضاع أوروبا ماديا هدفا لترامب (وقد يكون هذا خلافا لفنزويلا وكندا وجرينلاند)، لكن ما تبذله الولايات من جهود المتحدة للهيمنة على القارة من خلال التدخل السياسي، والتشويه الأيديولوجي، والابتزاز الاقتصادي، والافتراس العشوائي من شركات التكنولوجيا الكبرى، وفرض معتقدات الثقافة المحافظة المسيحية القومية؛ يرقى إلى الإخضاع المادي.
وفي حين أن أساليب بوتين أشد فجاجة فإن أجندته تتطابق مع أجندة ترامب؛ فهو لن يترك أوكرانيا، ويعمل على تكثيف الخطر العسكري الروسي واستغلاله ابتداء بدول البلطيق إلى البحر الأسود بما في ذلك مولدوفا ورومانيا وجورجيا، حتى باتت حرب روسيا الهجينية حقيقة ثابتة في الحياة اليومية لأوروبا الغربية.
ومع ذلك فإن ترامب زعيمَ الانقلاب الفاشل وبوتين المتهم بارتكاب جرائم حرب ليسا في تحالف رسمي؛ فهما لم يعقدا اتفاقا على غرار معاهدة مولوتوف-ريبنتروب لعدم الاعتداء سنة 1939. لكن بينهما أرضية مشتركة كبيرة؛ فكلاهما يزدري الديمقراطية الليبرالية الأوروبية، والمساواة في الحقوق، والتعددية الثقافية. وكلاهما يكن عداء عميقا للاتحاد الأوروبين وكلاهما يتوق إلى أمجاد إمبريالية غابرة، وكلاهما يرفض «عالمية» الأمم المتحدة والقانون الدولي. ونزعتهما القومية المتطرفة المناهضة للديمقراطية تغذي أفكار التفوق العرقي والعنصري التي كان أغلب الأوروبيين يعدها في ذمة التاريخ.
ولا يخفي ترامب رغبته في تطبيع علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، ويزعم أن من شأن هذا التطبيع أن يفضي إلى فرص هائلة ذات فوائد مشتركة في جني المال. وحينما اشتكى الأسبوع الماضي من أن بوتين قد «خذله» لم يكن يعني بذلك فشله المخجل في قمة ألاسكا للسلام، وإنما كان يعني رفض الرئيس الروسي إبرام صفقة مربحة.
ويتجسد في تحول ترامب المفترض تجاه كييف سياساته الفجائية التي تتدافع عشوائيا من فكرة غبية إلى أخرى؛ فلا دوام لها. وإنذاره بأن روسيا تواجه «متاعب اقتصادية كبيرة» كان طريقته في دفع بوتين إلى المتاجرة، وترك أوكرانيا وأعضاء الناتو الأوروبيين يديرون التهديد الروسي بعيد المدى وحدهم.
وفي حين أن الرئيس الأمريكي يحث الآخرين على قطع إمدادات النفط الروسي فإن الولايات المتحدة نفسها لا تفعل شيئا. وما العقوبات المشددة المفترضة إلا محض كلام؛ فقد رفض استئناف المساعدات العسكرية المباشرة لكييف، أو معاقبة روسيا على التوغلات في أراضي الناتو.
وفي هذا السياق فإن نبوءته بأن أوكرانيا سوف تسترد بطريقة ما كامل أراضيها الضائعة ليس سوى استهزاء خالص.
وتعزز حملتا الضغط السياسي لكل من ترامب وبوتين إحداهما الأخرى. وكلاهما يدعم الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة والقومية والشعبوية وساسة هذه الاتجاهات؛ ففي فبراير تدخل نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس مباشرة في الانتخابات الألمانية؛ إذ وقف في صف حزب اليمين المتطرف المعروف بـ«البديل من أجل ألمانيا». ولعل مساندة ترامب للمرشح الرئاسي البولندي كارول ناوروكي قد ساعدت القومي المحافظ في تحقيق فوزه الضئيل.
ولقد أدت حملات تأثير روسية مماثلة فضلا عن حيل قذرة ومزاعم بشراء أصوات إلى إفساد الانتخابات التي سوف تجري في نهاية هذا الأسبوع في رومانيا وملدوفا؛ فهل يتآمر ترامب وبوتين لضمان أن يتولى رئاسة فرنسا بعد إيمانويل ماكرون سنة 2027 رئيس شعبوي يميني متطرف؟ هذا تخوف مشروع.
كلا القائدين يستغل مجتمعات أوروبا المنفتحة، ويثير صراعات سياسية، ويدعم من يؤثرهم على غيرهم. في حالة ترامب هناك جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية، وهناك أيضا الشعبوي البريطاني المعادي للهجرة نايجل فاراج، وهو أحمق عظيم النفع. وفي حالة بوتين هناك القادة الموالون لموسكو من أمثال فكتور أوربان في المجر وروربرت فيكو في سلوفاكيا.
وأوضح تجليات الضغط الاقتصادي الأمريكي العدواني هو رسوم ترامب الجمركية أحادية الجانب التي أنذرت بالاتفاقية التجارية المنحازة انحيازا مضحكا بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الصيف الماضي. واستثمار شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى في المملكة المتحدة بقيمة واحد وثلاثين مليار جنيه إسترليني الذي أُعلن عنه خلال زيارة ترامب الرسمية شبه الملكية يحمل مسحة كولونيالية جديدة.
ولا بأس بشراء المنتج البريطاني، لكن هل يشتري مليارديرات الولايات المتحدة بريطانيا نفسها؟
أما بوتين فهو أقل تخفيا؛ إذ تشل هجمات إلكترونية ـ لا يمكن إنكارها ـ صناعاتٍ ومؤسسات أوروبية رئيسية، وينقطع على نحو غامض كابل اتصالات بحري أو خط أنابيب غاز، وترغم طائرات مسيرة على إغلاق مطارات، ويجري توجيه مهاجرين بلا أوراق إلى حدود الاتحاد الأوروبي، ويكثر الاحتيال عبر الإنترنت، وتتنوع الأساليب. ومع ذلك فإن حرب موسكو وواشنطن الاقتصادية على أوروبا المتزامنة أمر حقيقي.
يزعم تقرير مثير للقلق صادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) والمؤسسة الثقافية الأوروبية أن الولايات المتحدة تشن حربا ثقافية واسعة النطاق على أوروبا. ومع ذلك، فإن نتيجة التقرير الرئيسية - وهي أن ترامب يروج لحلفائه السياسيين والأيديولوجيين، ويحاول في الوقت نفسه تهميش الاتحاد الأوروبي وتقسيمه - تنطبق بالقدر نفسه على روسيا بوتين.
يمثل دفاع فانس عن «حرية التعبير» ـ خلال هجومه المشؤوم في مؤتمر ميونيخ للأمن على تراجع أوروبا المزعوم عن «بعض قيمها الأساسية»ـ ساحة معركة ثقافية رئيسية. وها هنا تكمن نقطة التقاء أخرى؛ فبالنسبة لترامب وبوتين هناك حرية تعبير إن هما اتفقا مع المتحدث، وبخلاف ذلك لا حرية تعبير. -واسألوا جيمي كيميل، أو الراحل أليكسي نافالني-؛ فما أشبه ترامب وبوتين بالممثلين الهليين لوريل وهاردي - لولا أن نكاتهما ليست مضحكة.
بتفاؤل يشير تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إلى أن الهجوم المزدوج من الشرق والغرب يقرب الأوروبيين بعضهم إلى بعض. ومع ذلك وكدأب أوروبا؛ فإن ما ينقص هو الإحساس بالعجلة والقيادة القوية الموحدة. وما ينقص هو الفهم الواضح؛ لأن هذه الإدارة الأمريكية التي لم تعد بالصديق الموثوق تتحول إلى عدو صريح، وأن الدب الروسي الذي كنا نتصور أنه سلالة انقرضت قد عاد بقوة.
وتتزايد الأدلة، وكذلك التهديد. وسواء بخطة أم بغير خطة؛ يعمل ترامب وبوتين معا، وهما مفترسان متماثلا التفكير استبداديان وغير أخلاقيين، أو هما يعملان على أقل تقدير بالتوازي؛ من أجل تقويض الديمقراطية، والأمن، والرخاء، والقيم التقدمية الأوروبية. فيبدو الأمر أشبه بحصار مدبر، ويبدو أشبه بعام 1939.
