تحول خطير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي!

09 أكتوبر 2023
09 أكتوبر 2023

تعرف مسارات العلاقات والصراعات بين الدول والشعوب تغيرات عديدة ملموسة ومباشرة، في فترات تطورها وما قد تمر به من منعطفات وأزمات بفعل عوامل ومؤثرات مختلفة، خاصة إذا ارتبطت بالهوية الوطنية وبالتاريخ والأرض والثقافة والتراث وبالحياة المستمرة والمستقرة على أرض الوطن كما هو الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني الشقيق الموجود على أرضه قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، ولا يؤثر على ذلك ادعاء الإسرائيليين وجودهم في فلسطين كجزء من سرديتهم لبناء تاريخ يستندون إليه لادعاء وجود وطن لهم في فلسطين بزعم أن «فلسطين هي أرض بلا شعب وأنها أرض الميعاد»، وقد وجدوا للأسف من يشجعهم ويدفع بهم في هذا الاتجاه من القوى الاستعمارية الغربية في ذلك الوقت للتخلص من عبء «المشكلة اليهودية في أوروبا» خاصة منذ أوائل القرن التاسع عشر.

ومع الوضع في الاعتبار ما حدث من تطورات عززت من قدرة وسيطرة إسرائيل على الأراضي التي سيطرت عليها بعد عدوان يونيو 1967، لأسباب إسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية أيضا فإنه يمكن القول بأن حرب أكتوبر 1973 كانت بمثابة نقطة التحول في علاقة القوة بين مصر وإسرائيل في ظل الانتصار العربي على إسرائيل وما قام به وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في ذلك الوقت لصالح إسرائيل وضد مصر إعلاميا وفي الأمم المتحدة أيضا. ولعل مما له معنى ودلالة أن هذه الأيام التي تشهد الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر المجيدة تحولا خطيرا في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو تحول انكسر معه البعبع الإسرائيلي.

ومع التأكيد على أن التحول الذي أحدثته حرب أكتوبر يختلف بالضرورة عن التحول الذي يبدأ الآن بين فصائل المقاومة الفلسطينية وبين إسرائيل لاعتبارات وأسباب عديدة ومعروفة ولا مجال للمقارنة بينهما على أي نحو، حتى وإن عمدت إسرائيل إلى زيادة الخسائر الفلسطينية إلى أقصى مدى على الأقل لحفظ ماء وجهها داخليا وإقليميا ودوليا، فإن حرب غزة التي اندلعت يوم السبت الماضي، والتي ستستمر أياما أخرى حسبما يريد نتانياهو لها تشكل بالفعل نقطة تحول في مسار المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية وفي إطارها وسوف تؤثر بالضرورة على المستقبل ولكن في الاتجاه المعاكس الذي طالما حلم نتانياهو ووزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير بتجنبه بل وبشروا بإمكانية تحقيقه أو البدء في ذلك عمليا خلال عدة أشهر، ولكن حرب غزة بددت في الواقع، أو تكاد تبدد ذلك. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا، إنه بالرغم من تعدد وتنوع المواجهات المسلحة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية أو بعضها على مدى العقود الماضية، إلا أن الحرب التي بدأت السبت الماضي والتي لا يستطيع أحد الجزم بموعد توقفها خاصة في ظل تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي هي حرب تختلف عن الحروب السابقة بين المقاومة الفلسطينية وبين إسرائيل، ليس فقط من حيث إنها جمعت بين الحرب البرية والبحرية والقصف الصاروخي المكثف منذ اندلاعها وهو ما أربك القوات الإسرائيلية ولكن أيضا لما اتسمت به من جسارة وقدرة على الانتشار من جانب فصائل المقاومة، خاصة بعد انضمام قوات الجهاد الإسلامي إلى جانب قوات حماس وقيامهما بالقتال المنسق معا وهذه نقطة لها ما بعدها لأنها أثبتت عمليا فعاليتها وضرورتها والحاجة إلى توسيع نطاقها والاستفادة من دروسها في المستقبل، يضاف إلى ذلك أن الفلسطينيين استطاعوا هذه المرة الاندفاع والدخول إلى عدة مستوطنات إسرائيلية على حدود قطاع غزة وبالتالي ذهبت عناصر المقاومة إلى داخل المستوطنات وقاتلتهم داخلها وأسرت عشرات الجنود وبأعداد فاقت المائة والخمسين عسكريا من الجنود والضباط مما أثر بشدة في معنوياتهم على نحو غير مسبوق، هذا فضلا عن الارتفاع الشديد في عدد القتلى والمصابين، أكثر من سبعمائة قتيل وما يزيد على ألفين وثلاثمائة جريح وهذه أرقام تتجاوز إجمالي حجم خسائر إسرائيل في عدة مواجهات سابقة، كما لم تعتد عليها إسرائيل في مواجهاتها السابقة مع المقاومة الفلسطينية التي ظهرت في الواقع بوجه مخيف بالنسبة للإسرائيليين، وهو ما سيغير بالضرورة نظرة الإسرائيليين لهم ويزيد من ثقة الفلسطينيين في قدراتهم وفي أنفسهم خاصة وأنهم سيطروا على عدد من المستوطنات والمواقع الإسرائيلية وخاضوا مواجهات شرسة حتى تم استعادة معظمها.

ثانيا، إن شراسة مواجهات غزة الآن هي في الواقع من نتائج التطرف الإسرائيلي والمبالغة في استخدام القوة المفرطة في الاشتباكات مع الفلسطينيين في المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية، وكذلك تكرار اقتحامات المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي في الخليل عندما يريدون بسبب سيطرة المتطرفين على الحكومة الحالية وبالتالي فقد انتقل نمط المواجهات إلى نمط أكثر شدة وعنفا بكل ما يترتب عليه من نتائج ومنها تكتيك الأرض المحروقة. وبينما شعر الإسرائيليون بوطأة هذه المواجهات حيث قال نتانياهو: إن حماس فتحت «جبهة» ضد إسرائيل وأنها ستدفع ثمنا غاليا جدا، وأنه «سنثأر لهذا اليوم الأسود وأن المعركة طويلة» فإن الرئيس الإسرائيلي هيرتزوج قال: «إننا نمر بوقت عصيب»، كما أعرب قائد المعارضة الإسرائيلية بيني جانتس عن استعداده للانضمام إلى حكومة وحدة وطنية مع نتانياهو، وهو ما أبدى نتانياهو موافقة عليها، وتعبر الخطوات والإجراءات واستدعاء قوات من الاحتياط عن مدى الارتباك الإسرائيلي الذي يدفع نتانياهو إلى التصعيد بشكل أكبر ضد الفلسطينيين. ومن شأن ذلك أن يفسر حجم الخسائر الفلسطينية الانتقامية التي حدثت في غزة بما فيها ما تعرضت له البنية الأساسية من تدمير وبرغم الخسائر الفلسطينية الكبيرة في الأفراد أكثر من 465 قتيلا ونحو 2300 جريح إلا أن حجم الخسائر الإسرائيلية يعد غير مسبوق من حيث أعداد القتلى نحو 750 قتيلا منهم قيادات عسكرية عليا، والجرحى الذين تجاوز عددهم 2300 جريح والأسرى (نحو 150 أسيرا) والمفقودون (نحو 750) شخصا فضلا عن قدرة الفلسطينيين على القتال لمدة أطول، وهو ما سيغير النظرة السابقة لكل طرف حيال الآخر مما سيكون له انعكاساته على نمط المواجهات القادمة، خاصة أن الأرقام ليست نهائية وقابلة للزيادة مع استمرار القتال وإمكانية الاجتياح البري الإسرائيلي لغزة.

ثالثا، إنه في حين سيعمد نتانياهو وبن غفير إلى مزيد من التصعيد والهمجية للتغطية على الفشل الأمني والعسكري وللتقليل من حجم الانتصار والإنجاز الفلسطيني غير المسبوق، إلا أن الواقع هو أن فصائل غزة وضعت بالفعل وبالتكتيك الذي استخدمته في المواجهة وضعت أساسا للتوازن النسبي في المواجهات القادمة مع إسرائيل، صحيح أنه تظل هناك فجوة قوة موجودة لصالح إسرائيل ولكن الصحيح أيضا أن إسرائيل ستعيد بالضرورة حساباتها بالنسبة لأية مواجهة قادمة مع فصائل غزة، ومن صالح إسرائيل العودة إلى الاتفاق الضمني مع حماس لتجنب المواجهة بين الجانبين التي يدفع كلا الطرفين ثمنها غاليا.

على أية حال فإن حرب هذا الأسبوع وإن كانت قد أعادت الاصطفاف في مواقف مؤيدي إسرائيل وعلى رأسهم أمريكا وألمانيا وبريطانيا والغرب عموما وإلى مؤيدي الفلسطينيين وحقهم في استعادة حقوقهم الوطنية المشروعة، وهو ما أكدت عليه سلطنة عمان ومختلف الدول العربية، فإنه من المأمول أن تعيد الحرب ثقيلة الوطأة، إسرائيل إلى رشدها، وأن تكون حكومة الوحدة الوطنية، إذا نجح نتانياهو في تشكيلها وتجاوز عقبات بن غفير والمتطرفين الآخرين في حكومته الحالية، مدخلا لإحياء حل الدولتين لأن البديل لن يكون في صالح إسرائيل مع مرور الوقت. خاصة أن التجربة المرة وهلع المستوطنين في غلاف غزة والذين تم تهجيرهم للاستمرار في العمليات يدفع كثيرين للتفكير في الهجرة المعاكسة من إسرائيل فالأمن والاستقرار لا يمكن أن يكون لصالح طرف واحد (إسرائيل) وعلى حساب الطرف الآخر (الفلسطينيين) بل لابد أن يكون لصالح الطرفين وعلى نحو يقوم على المصالح المتبادلة؛ لأن البديل على الأرض مخيف ولصالح الحق الفلسطيني مهما تسلحت إسرائيل اليوم وغدا فالتحول بدأ بالفعل ولا رجعة عنه.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري