اهتزاز العالم الحديث!

08 فبراير 2023
08 فبراير 2023

تطرح الأشكال الجديدة للتواصل بين البشر، بعد ثورة الإنترنت تحديات غير مسبوقة حيال التعاطي معها، فقد كان العالم أشكالًا متحولة من طريقة تشكيل العلاقات وتنظيم الحياة، وعلى رأسها اكتشاف نظرية الدولة في العصور الحديثة، وما يتصل بها من حقوق كالمواطنة.

وفي ظل تحديات ثورة المعلوماتية والاتصالات تشكلت فضاءات جديدة للتأثير والتأثر، وكان المدخل الأداتي لكثير من وسائط الإنترنت وآلياتها يضمر علاقات جديدة متعددة الاستخدامات بمستويات مختلفة مع كافة البشر من حيث قدرة تلك الأجهزة المستعملة كالهواتف الذكية والآيباد وغيرها على أن تكون قابلة لإنتاج تفاعلاتها مع كافة المستويات العمرية، الأمر الذي بدا بذاته علامة فارقة كبرى بين طبيعة الوعي المتطور لأطفال اليوم عن الأطفال الأمس (الذين ولدوا منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين وما قبلها).

ثم إن الوتائر التي تتطور بها وسائط ثورة المعلوماتية وأجهزتها الذكية، وتائر متسارعة أحدثت فرقا مختلفا في نوعها كلما تقدم الزمن بالبشر في ظل هذه الثورة الجديدة، وإذا كانت التحولات التي درج عليها العالم منذ الثورة الصناعية الأولى - قبل قرون - كانت من طبيعة رتيبة ومتدرجة بحيث يمكن للمجتمع التطور معها بصيغة قد لا تمكنه من رؤية الفرق الكبير في وتائر التطور إلا بعد زمن قد يستغرق جيلًا، أما اليوم فإن السرعات المتناهية لوتائر التطور والتفاعل الكبير ومفاجآت عالم الذكاء الاصطناعي أصبحت إشكالًا يؤرق الفلاسفة والمفكرين حيال الأوضاع التي يمكن أن يصبح عليها حال المجتمعات البشرية فيما هم لا يدركون على وجه التحديد؛ ماهية وطبيعة تلك الأوضاع المستقبلية، بل ليست لهم القدرة على التنبؤ بها!

لقد كانت تجربة مرض كورونا الذي أصاب العالم خلال عامي 2019 - 2021 اختبارًا عسيرًا ليس لجهة العجز عن القدرة على احتوائه، الذي حدث بعد ذلك، بل من حيث المؤثرات الجديدة لطريقة التطور الرأسمالي المعولم، والضغوط الناعمة للشركات العابرة للقارات في إملاءاتها غير المنظورة على الحكومات، حيث إنه كان واضحًا أن خطة التباعد التي تقتضي إغلاقًا سريعًا للمجال العام الصناعي خطة يمكن إنفاذها سريعًا للتحكم على المرض، وإنقاذ أرواح مئات الآلاف من البشر، لكن التلكؤ الناعم للحكومات الغربية والتحجج بالديمقراطية في إجراءات تنفيذ مواجهة خطر داهم كشفت معاهد الأبحاث الصحية الغربية الكبرى طريقةً وواضحةً عن سبيل مواجهته، لقي ذلك التلكؤ والتحجج من قبل حكومات العالم الكبرى تلك الضغوط الناعمة لشركات رأس المال العالمي، مما أدى إلى تلك الخسائر في الأرواح حتى في أرقى الديمقراطيات، فبدا الأمر في مدن بلدان العالم الأول من حيث تعداد ضحايا المرض، كما لو أنها مدن من العصور الوسطى!

إن هذه التجربة التي تدل على أن التأثيرات المتعددة لمراكز قوة الشركات العابرة للقارات التي صنعتها العولمة مستفيدةً في ذلك من تطور ثورة المعلوماتية والاتصال، تطرح اليوم أسئلة جديدةً على سبيل النقاش، فبتنا نسمع إضافات جديدة في سلسلة «الما بعديات» التي ظهرت مع مدرسة «ما بعد الحداثة»، عبر نماذج أخرى لمصطلحات جديدة مثل: «ما بعد المواطنة» - «ما بعد الدولة القومية» وغيرها من المصطلحات التي ليس من شأنها أن تربك العالم أكثر مما هو مرتبك الآن، بل يمكنها أن تضع العالم في حالة من السيولة التي تجعله عالماً غامضاً يمر بتجربة جديدة، لم تتخلص من القديم، ولم يتبلور معها معالم الجديد الذي تعد به تلك الثورة!

لهذا يبدو أن العالم أمام نموذج مرحلة «بابلية» للعصور الحديثة، مرحلة أشد العلامات المحيرة فيها؛ كيفية مواجهة المستقبل الغامض وغير المعروف.

هل يمكن القول إن هذه الحيرة مصدرها القديم هو نسبية المعرفة والحقيقة في الأصول المعرفية للحداثة؟ وهل يمكن القول؛ أن التصور المادي للعالم الحديث وعلاقاته قد يفضي إلى نتائج كهذه التي تتكشف عنها اليوم نتائج ثورة المعلوماتية والاتصال ووعود الذكاء الاصطناعي في التحكم بحياة الإنسان الحديث على نحوٍ لا يدرك الإنسان حتى الآن إلى أين سيأخذه ذلك التطور البشري؟

في كل الأحوال، نحن بإزاء مستقبل لعالم غامض، المفاجآت فيه أكثر من التوقعات، بحكم وتائر تطوره السريعة على نحوٍ غير مسبوق، ولا نعرف على وجه الدقة كيف ستعمل تلك التفاعلات على صورة واضحة لعالم المستقبل كما كان يتنبأ به المفكرون الاستراتيجيون والفلاسفة.