انسحاب ترامب من الناتو كان محسوبا.. أما تعامله مع قطر والهند فتتبعه فوضى عارمة
ترجمة: أحمد شافعي
في العالم كله، يتجمع القادة السياسيون الآن، في قمم واجتماعات تم ترتيبها على عجل. في الأسبوع الماضي، بعد ضربة إسرائيل لقيادات حماس في الدوحة ـ بما يمثل انتهاكا صارخا لسيادة بلد ليس حليفا مقربا من الولايات المتحدة وحسب ولكنه أيضا من ركائز محادثات السلام في غزة ـ هب قادة الخليج لإظهار التضامن. فوصل رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد آل نهيان في زيارة غير مرتبة إلى الدوحة وعانق أمير قطر. فكان ذلك استعراضا علنيا لأخوة ما كان لأحد أن يفهمها قبل سنوات قليلة فقط حينما كانت بين البلدين خصومة مريرة. وكان لقطر خصوم آخرون في تلك الخصومة منهم المملكة العربية السعودية التي دعت إثر الضربة الإسرائيلية إلى «رد عربي وإسلامي ودولي لمواجهة العدوان» و«الممارسات الإجرامية» الإسرائيلية. وفي يوم الأحد، كان قادة دول عربية وإسلامية في طريقهم إلى الدوحة لحضور قمة طارئة.
قبل ذلك بأكثر قليلا من أسبوع، كان تجمع آخر يشير إلى تحالفات جديدة. فقد التقى قادة الهند والصين وروسيا في تيانجين، وظهروا مبتسمين ابتسامة دافئة في صورة يرجح أنها ستكون من آثار هذه الحقبة الباقية. أقيمت هذه القمة غداة جفاء دونالد ترامب تجاه حليف آخر هو الرئيس الهندي ناريندرا مودي. فبعد انتخاب دونالد ترامب للمرة الثانية، كان ناريندرا مودي من أوائل الزعماء الذين زاروا العاصمة واشنطن فقيل في حقه هناك إنه «صديق عظيم» وحدَّد البلدان هدفا لهما يتمثل في مضاعفة تبادلهما التجاري ليصل إلى ترليون دولار بحلول سنة 2030.
وبعد أشهر قليلة، صفع دونالد ترامب الهند بتعريفة جمركية تبلغ 50% على السلع المستوردة منها، فضوعفت التعريفة عقابا لقيام الهند بشراء النفط الروسي. ثم مضى فوصف الاقتصاد الهندي بـ«الميت»، وعلّق على قمة تيانجين بمنشور نصه: «يبدو أننا خسرنا الهند وروسيا وكسبتهما الصين المظلمة أعمق الإظلام». وهو الآن يحشد الاتحاد الأوروبي من أجل فرض تعريفات تصل إلى 100% على الهند والصين.
وقبل أشهر قليلة فقط من الضربة الإسرائيلية للدوحة، قال دونالد ترامب ـ خلال زيارته للعاصمة القطرية ـ «فلنوجه الشكر على بركات هذه الصداقة». فيبدو أن وصف الصداقة من دونالد ترامب الآن ليس ضمانا لعلاقات طيبة، بقدر ما هو نذير بغدر وشيك. ومن المؤكد أن بعض هذه التجمعات، وبيانات التضامن الجديدة وتركيز التحالفات الجديدة، ولاعتبارات معينة، لا تعدو استعراضا علينا. فليس للهند أو قطر أي مصلحة في استعداء دونالد ترامب علانية. وما تعبيرهما عن الغضب وتظاهرهما بالصداقة إلا لتظهرا للولايات المتحدة أنهما ليستا تابعتين وأن لديهما أصدقاء آخرين. كما كان على حلفاء آخرين غدر بهم دونالد ترامب أن يتدبروا ردا على المذلة الأمريكية مراعاة لصورهم المحلية والإقليمية.
لكن من نواح أخرى، هذه محاولات حقيقية لاستكشاف ما يمكن تشكيله من تكتلات للقوة. وما يعتمد عليه دونالد ترامب ـ وبنيامين نتنياهو بطريقة ما ـ هو أن بوسعهما أن يكونا ما يطلق عليه في عالم التمويل بـ«محدد الأسعار» أو «صانع الأسعار»، أي الطرف صاحب القدرة على تحديد تكلفة السلع والخدمات نظرا لغياب المنافسة السوقية. فبوسع إسرائيل أن تقصف من تشاء، وبوسع الولايات المتحدة أن تخرق المعاهدات الأمنية وتملي شروطها الاقتصادية، وما لأحد من حق في الرد.
غير أن الاستمرار في عمل هذا لوقت طويل يجعل الفاعلين العقلانيين يبدأون في البحث عن سبل أخرى للتكيف مع هذه التنافسية السوقية المعيبة. وليس ذلك لأن هذه الدول المعرضة حديثا للجفاء تعترض على أن تكون الولايات المتحدة وإسرائيل قويتين عسكريا، فدول الخليج بصفة خاصة توددت إلى الولايات المتحدة وغالت في ذلك، وتسامحت مع إسرائيل أو طبعت العلاقات معها. ولكن السبب في دراسة التوجهات سببه ببساطة أن دونالد ترامب خارج عن المألوف، وإسرائيل خارجة عن السيطرة. لذلك يبدأ قادة الدول في تحسس جيوبهم وأوراقهم وإجراء بعض الاتصالات ومحاولة البحث عن رأسمال لديهم (ولا شك أنه لديهم) وعن سبيل إلى استعماله. ولن نعدم متوترين متماثلي التفكير يجمعون قواهم، لأنه عند تعرض حليف للخيانة، يدرك الجميع أنهم ليسوا بمأمن أو بمنأى. ولقد كان لافتا أن الإمارات العربية المتحدة ـ الموقعة على الاتفاقيات الإبراهيمية ـ خرجت عن مألوفها وجهرت بانتقاد إسرائيل منذ الضربة القطرية.
وثمة أسئلة بالفعل مثارة حول مصير هذه الاتفاقات. ففي تيانجين، حثت الصين أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون على الانتفاع من «أسواقهم الهائلة» لدعم التبادل التجاري والاستثمار بين بعضهم بعضا وأعلنت عن «مبادرة للحوكمة العالمية» في مسعى واضح لتصوير الصين وحلفائها باعتبارهم داعمين لنظام عالمي جديد.
ولقد كان من حضور القمة بلاد أخرى من قبيل تركيا ومصر اللتين تمثلان أيضا هدفين اقتصاديين وسياسيين لأزمات الشرق الأوسط.
في هذه المرحلة الجديدة من سياسة دونالد ترامب الخارجية، يترسخ القلق من عدم القدرة على الاعتماد عليه ويصبح هذا القلق جزءا من فهم مفاده أن المغالاة في التعرض لأهواء نظامه الحاكم خطر مباشر، لأنه لا يمكن لأي درجة من الاستثمار في العلاقة معه أن تؤتي ثمارها. فلا جدوى من التعامل مع طرف قاس في صفقة إلا عند الوفاء بقاعدة أساسية: هي أنه فور إبرام الصفقة، وإن كانت صفقة سيئة، فإنها تكون ملزمة له. ولقد انتهك دونالد ترامب هذا العماد الأساسي. وعندما يتعلق الأمر بإسرائيل، لم يعد دونالد ترامب يبدو شخصا يمكن إقناعه، أو إطراؤه، أو التودد إليه من قبل الدول العربية. فهو ببساطة غير ملتفت إلى مسألة منع الصراع من الانتشار بما يمعن في إعادة رسم الخريطة الفعلية والسياسية للشرق الأوسط. وهو إمبراطور كسول ومتقلب، يجلس على قمة بلد يعصف به العنف والأزمات.
إننا نشهد الآن إعادة ترتيب عالمي، وهي بطيئة ومعقدة، ويحتمل أن تتسبب في اضطراب وفوضى للبلاد المرتبطة بالولايات المتحدة من خلال روابط اقتصادية وعسكرية. فالولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد استهلاكي في العالم، ومظلتها الأمنية ومبيعاتها من الأسلحة تمثلان عمادا للاستقرار في دول كثيرة، وبخاصة في العالم العربي. لكن الخيار الآن لكثير من حلفاء الولايات المتحدة هو ما بين التنازل عن سيادتها لدونالد ترامب أو العثور على سبل لدعمها عبر وسائل أخرى مع عدم استعداء رئيس الولايات المتحدة.
ولأن الأمر الأخير يلزم أن يتم بحذر فإنه قد يوجد انطباعا بأن الصفائح التكتونية لا تتحرك. لكن السرعة غير المسبوقة التي تعانق بها البلاد بعضها بعضا عناقا فعليا توحي بغير ذلك. ففي اللحظة الراهنة، قد ينظر دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو إلى القمم والبيانات فلا يريان فيها غير استعراضات جوفاء من بلاد ضعيفة، في حين أن قوة بلديهما في جانب منها قوة سيكولوجية. ولقد كان قبولهما يقوم على فهم أن الجميع متحدون من أجل الحفاظ على الوضع القائم، بما يعني أن الحلفاء لن يتعرضوا للقصف وأن اقتصادهم لن يتعرض للتخريب. ولكن، لا تكاد هذه التعويذة تفقد سلطانها، حتى تبطل كل الرهانات.
نسرين مالك من كتاب الرأي في صحيفة ذي غارديان
