الولايات المتحدة تقود العالم إلى الانهيار البيئي
ترجمة: أحمد شافعي -
هناك حقيقتان غير عاديتين بشأن اتفاقية التنوع البيئي التي يجتمع أعضاؤها الآن في مونتريال لمناقشة الأزمة البيئية العالمية. الحقيقة الأولى هي أنه من بين دول العالم البالغ عددها 198، فإن 196 أعضاء فيها. والحقيقة الثاية هي هوية غير الأعضاء. خمِّنوا. كوريا الشمالية؟ روسيا؟ الاثنتان صدَّقتا على الاتفاقية منذ سنوات. إحدى الدولتين هي (البحر المقدس) أي الفاتيكان، والأخرى هي الولايات المتحدة.
هذه واحدة من المعاهدة الدولية الأساسية المتعددة التي رفضت الولايات المتحدة التصديق عليها. وضمن الأخريات أدوات أساسية من قبيل قانون روما للجرائم الدولية، ومعاهدات حظر القنابل العنقودية والألغام الأرضية، واتفاقية التمييز ضد النساء، واتفاقية بازل للنفايات الخطرة، واتفاقية قانون البحار، ومعاهدة حظر التجارب النووية، واتفاقية سياسة التوظيف واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقات.
في بعض الحالات، تكون ضمن عدد صغير من الرافضين، ويكون البقية بصفة عامة إما دولا فقيرة ذات قدرات إدارية ضئيلة أو حكم استبدادي كريه. فهي البلد المستقل الوحيد على وجه الأرض الذي لم يصدق على اتفاقية حقوق الطفل. ولعل السبب في هذا هو أنها البلد الوحيد الذي يحكم على الأطفال بالسجن مدى الحياة دون إفراج مشروط، ضمن سياسات قاسية أخرى. وفي حين يلتزم الآخرون باللعب وفقا للقواعد، ترفض أقوى الدول ذلك. فلو أن ذلك البلد كان شخصا، لوصفناه بالجنون. أما وأنه ليس بشخص، فيجب أن نسميه الدولة المارقة.
من خلال هيمنتها غير الديمقراطية على الحكم العالمي، تضع الولايات المتحدة القواعد، منفردة في ذلك بدور يفوق دور أي دولة أخرى. وهي أيضا التي تفعل أكثر من غيرها منعًا لتفيذ تلك القواعد وتفعيلها. ورفضها التصديق على معاهدات من قبيل اتفاقية التنوع البيولوجي يوفر لبلاد أخرى ذريعة دائمة لقصر مشاركتها على الشكل فقط. وشأن القوى الإمبريالية، تتجلى هيمنتها في تأكيد حقها في ألا تكترث.
إن السؤال الذي يواجه كل ساعة إلى عالم ألطف وأفضل هو دائما سؤال ثابت لكنه لا يتوقف عن الإدهاش: كيف نقنع الآخرين بالاكتراث؟ فعدم الاهتمام بحل أزماتنا الوجودية، مثلما يعبر عنه مجلس الشيوخ الأمريكي بصفة خاصة، لا يندرج ضمن الاستثنائية السلبية. وإنما هو رفض إيجابي متكبر غاضب، رفض للاكتراث بحياة الآخرين. هذا الرفض أصبح القوة الدافعة للسياسات القديمة-الجديدة التي تكتسح العالم الآن. ويبدو أنها تدفع إلى دورة سياسية مميتة قادرة على تعزيز نفسها.
وانظروا إلى أزمة النتروجين في نيذرلاندز. فالعلماء هناك يحذرون منذ ثمانينيات القرن الماضي من أن الإفراط في إطلاق مركبات النيتروجين - بشكل أساسي من خلال الزراعة - يتجاوز قدرة الأرض والمياه على امتصاصها، بما يؤدي إلى قتل الأنهار، وتلويث المياه الجوفية، وإتلاف التربة، والقضاء على النباتات البرية، ويتسبب في حدوث أزمة تلوث عنيفة للهواء، نادرا ما تحظى بالنقاش. لكن لم يتسن إقناع الحكومات المتعاقبة بالاكتراث. وإخفاقها المتكرر في العمل على هذه التحذيرات أتاح تصاعد المشكلة إلى أن بلغت مستويات كارثية. في عام 2019، صدر حكم عن مجلس الدولة في نيذرلاندز بأن مستويات التلوث خرقت القانون الأوربي الذي يلزم الحكومة بأن تفعل فجأة ما عجزت الحكومات السابقة عن القيام به تدريجيا: أي أن تغلق بعض المصادر الأساسية لهذا التلوث.
أثار هذا رد فعل غاضبا من القطاعات الأكثر تضررا، وبخاصة قطاع مزارع تربية الحيوان. وقد أصبحت مظاهرات أصحاب المزارع الآن، شأن إضراب سائقي النقل في أوتاوا، قضية شهيرة تلقفها اليمين المتطرف في شتى أرجاء العالم. إذ يزعم الساسة اليمينيون أن أزمة النتروجين تستعمل ذريعةً للاستيلاء على أراضي المزارعين، الذين يجسدون الهوية الهولندية الحقيقية، وإعطائها لطالبي اللجوء وغيرهم من المهاجرين، امتثالا لقوى "العولمة" من قبيل المنتدى الاقتصادي العالمي.
بعبارة أخرى، وقعت القضية بين أيدي أصحاب نظرية المؤامرة القائلة بـ"إعادة الضبط الكبيرة" و"الإحلال الكبير"، فهم يزعمون أن هذه سياسات عمدية لإحلال أصحاب "ثقافات أخرى" محل أبناء البلد البيض. وقد تبنى بعض المزارعين الهولنديين الآن هذه الأفكار بل ونشروا خيالات مؤامراتية أكثر تطرفا لعلها أسهمت في تأجيج العنف وتصعيده.
هذه الأفكار ما هي إلا صياغات جديدة لمجازات قديمة. ففكرة أن المزارعين يمثلون الهوية الوطنية "المتجذرة" و"الأصيلة" التي لا بد من الدفاع عنها ضد القوى "الكوزموبوليتانية" و"الدخليلة" كانت دعامة أساسية في الفكر الفاشي الأوربي في النصف الأول من القرن العشرين. وبغض النظر عن أن الأسمدة النتروجينية تستورد الآن من روسيا وأن الأعلاف الحيوانية تستورد من الولايات المتحدة والبرازيل، وبغض النظر عن أن نموذج تربية الماشية المكثفة متماثل في شتى أرجاء العالم: يتم ترويج منتجان يذرلاندز من اللحم والبيض والحليب باعتبارها "محلية" وفي بعض الأحيان "سيادية" ويقال إنها مهددة من قوى "العولمة".
بسبب مثل هذه الإخفاقات والعجز عن الاهتمام طوال سنين كثيرة، نقترب الآن من نقاط قرارات جذرية يجب على الحكومات فيها إما أن تجري خلال شهور تغييرات كان ينبغي إجراؤها على مدار عقود، أو أن نشهد انهيار مكونات أسايية في الحياة المدنية، ومن ذلك أهم المكونات على الإطلاق: الكوكب الصالح للسكنى. ونحن في كلتا الحالتين على حافة منحدر.
وفيما نسارع نحو هذه المنحدرات، من المحتمل أن نرى رفضا أعنف للاهتمام. فعلى سبيل المثال، لو أننا في البلاد الثرية أردنا الوفاء بالتزاماتنا المزدوجة أي الاهتمام والمسؤولية، فلا بد أن نتهيأ لقبول مزيد من اللاجئين الذين سيأتون مطرودين من أوطانهم بسبب الانهيار المناخي والبيئي الناجم عن تطرفاتنا الاقتصادية. لكن مع ظهور أزمة النزوح هذه (التي يمكن أن تكون أكبر من أي نزع ملكية شهده العالم)، فإنها قد تؤدي إلى موجة جديدة من السياسات اليمينية المتطرفة الرجعية الرافضة بشدة للالتزامات المتراكمة من جراء عجزنا السابق عن العمل. وبدورها، سوف تؤدي السياسات اليمينية المتطرفة المنبعثة إلى إيقاف العمل البيئي الهادف. بعبارة أخرى، نحن نواجه خطر إدامة الانهيار وتصعيده.
هذه هي الدوامة التي نسعى إلى كسرها. ومع كل فرصة تهدر ـ والنذر تشير إلى أن قمة مونتريال قد تكون إحباطا كبيرا آخر ـ يتضاءل نطاق العمل اللطيف ويتسارع الاندفاع إلى القرارات الجذرية. ولقد قام البعض منا بحملات طوال سنين من أجل إتاحة المجال لهبوط يسير لهذه الطائرة. لكن الوقت الآن تجاوز ذلك. ونحن الآن في عصر الهبوط الصعب. ولا بد أن نواجه صعود اللامبالاة بسياسات صريحة واضحة جوهرها هو الاهتمام.
• جورج مونبيوت من كتّاب الرأي في صحيفة جارديان البريطانية.
