الوحدة والتعددية في المجتمع السياسي

05 يوليو 2023
05 يوليو 2023

يتألّف كلّ مجتمع من جماعات اجتماعيّة ووظيفيّة متعدّدة: طبقات، فئات، جماعات مدنيّة، روابط تضامنيّة، عصبيّات أهليّة تقليديّة، أحزاب، نقابات، جمعيّات...إلخ. جامعان رئيسان يجمعان بين هذا الأرخبيل المجتمعيّ من التّكوينات، أو قُـل من التّقسيمات التي تفرضها علاقات الدّم والنّسب، وعلاقات الاعتقاد، وعلاقات الجوار والعمل وما ينشأ في رحمها من مصالح؛ وذانك الجامعان هما: الشّعـب والوطن. قد لا ينتمي هذا التّشكيل الفسيفسائيّ كلُّه إلى شعب واحد - في حالة الاجتماع السّياسيّ متعدِّد الأقوام - ولكنّه ينتمي، في هذه الحال، إلى الجماعة الوطنيّة عينِها وإلى إطارها الجامع: الوطن، ويرتّب ذلك على الجميع ولاءً واحدا جامعا؛ هو الولاء للوطن وللدّولة التي تقوم على أمره.

على أنّ هذا الولاء الجامع الذي مَبْـناهُ على شعورٍ جمْعيّ بالانتماء المشترك إلى كيان لا يتعارض ووجود أشكال أخرى من الشّعور بالانتماء الثّـقافيّ أو بالانتماء الاجتماعيّ (أعني إلى فئة اجتماعيّة بعينها)، تماما كما لا يتعارض الانتماء إلى عائـلةٍ وأسرة مع الانتماء إلى الوطن. إنّ هذه التّعدّديّة الاجتماعيّة مشروعة، تماما، ولا غبار عليها متى ما ظلّت تعبّر عن نفسها من خلال وحدة الشّعب والوطن والدّولة، وهي لا تبدأ في طرح نفسها كمشكلة على المجتمع إلا حين تبدأ تلك التّكوينات في الانغلاق والتّـشرنُق على الذّات، وبالتّالي، في تعْليةِ قيمة الولاءات الفرعيّة الصّغرى على الولاء الأعلى للوطن، وربّما في الحالات الأسوأ، في الاعتياض عنه بها! حينها، فقط، تستحيل التّعدّديّةُ تلك خطرا على الوحدة، بل هي تتوقّف عن أن تستمرَّ تعدُّديّة - في هذه الحال - لتصير انقساما وانشقاقا...!

ما يقال على الوحدة والتّعدّديّة في المجتمع، على وجْـهٍ من العموم، يقال عليهما في المجتمع السّياسي (= الدّولة) على وجه الحصر. الدّولة في أيّ مجتمع، ولدى أيِّ شعب أو أمّة، هي مبدأ التّوحيد: توحيد الكيان الاجتماعيّ في كيان سياسيّ. أيّا تكُـن درجةُ التّعدُّد في التّكوين الاجتماعيّ، للدّولة وظيفةٌ أساسٌ من وظائفها العديدة: وظيفة صَهْر تلك التّكوينات الفسيفسائيّة في بنية اجتماعيّة انصهاريّة واحدة: الشّعب أو الأمّة أو الجماعة الوطنيّة. لا توجد شعوبٌ أو أممٌ ولا جماعات وطنيّة ولا مواطنون قبل قيام الدّولة؛ الموجودُ قبْلها قطيعٌ بشريّ تحكمُه علاقاتُ الطّبيعة لا علاقات المجتمع السّياسيّ: علاقات الجوار والدّم وغايات تحصيل المعاش... لا أكثر. مع الدّولة وقع الانتقال من القطيع البشريّ إلى الاجتماع الإنسانيّ، ومن الاجتماع الإنسانيّ إلى الاجتماع السّياسيّ؛ وفي الغضون تكوّنتِ الوحدات الإنسانيّة الملتحمة بعلاقات التّضامن التي مَبْـناها على القرابة أو اللّسان أو المصالح...، وهذه مرحلة متأخّرة من التّاريخ الإنسانيّ لا تتجاوز بضعة آلاف عام.

لا يعْنينا الجدل في مسألة ما إذا كانت الشّعوب والأمم هي التي صنعت دُوَلَها الخاصّة بها (= الدّول القوميّة على نحوٍ خاصّ)، أو أنّ الدّول هي التي كـوّنتِ الأمم؛ فليس هذا مكان البحث فيها (وقد تناولنا ذلك، بتفصيل، في كتاب: نقد الخطاب القوميّ)، إنّما يعنينا التّشديد على مركزيّة وظيفة الصّهر والتّوحيد في عمل الدّولة داخل أيِّ اجتماعٍ إنسانيّ، على النّحو الذي لا يسمح للأرخبيل الاجتماعيّ بأن يكون عبثا على المجتمع أو مبدأ لنشوب نزاعاته وتنمية الشِّقاق بين جماعاته. وليس تاريخ الدّولة سوى تاريخ محاولاتها الدّائبة لردِّ المتعدِّد إلى الواحدِ والمنقسِم إلى الموحَّـد، وحماية نفسِها - والمجتمعِ معها - من تبعات انفلات التعدُّد والاختلاف من كلّ عِقال يَعْـقِله.

عنوانُ وحدةِ الكيان الوطنيّ هو الدّولة؛ التي تتجسّد فيها تلك الوحدة، من جهة، وتُصان وتُحْمى فيها ويعادُ إنتاجُها كوحدةٍ للمجتمع والشّعب من جهة ثانية. بهذا المعنى تكون الوحدةُ السّياسيّة للكيان الوطنيّ، ممثَّـلَةً في الدّولة الواحدة، شرطا للوحدة الاجتماعيّة والوحدة الوطنيّة، أي للانتقال بجماعات المجتمع المختلفة إلى لحظة الشّعب الواحد الموحّد. ولا يكون ذلك في دائرة الإمكان إلا متى نجحتِ الدّولة في صهر تكوينات المجتمع في بنية جديدة قائمة على علاقة الاندماج الاجتماعيّ، من حيث هي العلاقة التي تبـدِّد الفواصل الماديّةَ والنّفسيّةَ بين قوى الاجتماع الوطنيّ وتخلق فيها عوامل الالتحام. هكذا تكون وحدةُ الدّولة - ووحدة الوطن والمجتمع بالتّبِعة - شرطا تأسيسيّا وليس نتيجة لأيّ وحدةٍ سابقة، وبالتّالي، يكون مبدأ الوحدة هو عينُه مبدأ الوجود: وجود الدّولة، والأساس الذي عليه تنهض وظائفُها كافّـة.

على أنّ مبدأ الوحدة في الاجتماع السّياسيّ لا يلغي، بالضّرورة، إمكانا للتّعدُّديّة فيه طالما ظلّ يسع تلك التّعدُّديّة أن تتحرّك تحت سقف وحدة الكيان الوطنيّ والدّولة، وأن تحترم ما وقَع عليه التّوافق المجتمعيّ نحو نظام الدّولة الأساسيّ. ربّما كانت هذه الجدليّة في الماضي (= جدليّة الوحدة والتّعدّديّة) تـتّخذ شكلا معلوما ومألوفا هو المركزيّة واللاّمركزيّة (للأقاليم والأطراف)، وما كانت لِتُجاوِز ذلك إلى أشكالٍ جديدة أعلى. وهذا مفهوم بالنّظر إلى أنّ دول الماضي الوسيط وإمبراطوريّاتُه لم تكن قد شهدتْ بعد على ظاهرةٍ ارتبطت بالدّولة الحديثة، منذ القرن السّابع عشر، هي توزيع السّلطة وعدم مَـرْكَزَتها في جهةٍ واحدة. وما إنِ استتبّ للدّولة الحديثة أمرُها، حتّى بات في الإمكان التّعبيرُ عن تلك الجدليّة بين وحدة الدّولة وتعدّديّة المجال السّياسيّ في صُـوَر منها جديدة ومتعدّدة. بماذا يمكن تسمية نظام الدّولة الوطنيّة الحديثة سوى أنّه نظام المشاركة السّياسيّة. وغنيّ عن البيان أنّ المشاركة لا تكون إلا بين من يُجاوِزون الواحديّة إلى التّعدُّد. لذلك تُـقِرّ قوانين الدّولة الحديثة بمشروعيّة التّعدّديّة السّياسيّة، والتّعدّديّة في الآراء، ومشروعيّة التّنافس بين قواها لكسب تأييد الرّأي العامّ وللمشاركة في السّلطة وتقديم الخدْمة العامّة للمصلحة العامّـة.

تعدُّديّةٌ من هذا النّوع ليست ذات خطرٍ على وحدة الوطن والدّولة، لأنّها تُفصح عن نفسها تحت سقف تلك الوحدة، وتُسلّم بما يُقرِّره الدّستور من مبادئ وقواعد، بل هي - في حقيقة أمرها - إِغناءٌ لتلك الوحدة وإعادةُ إنتاجٍ لها بما هي وحدةٌ محطُّ توافُقٍ وإجماعٍ وليست مفروضةً على المجتمع كَـرْها.

عبدالإله بلقزيز - أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، حاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.