الوجه الآخر للغرب
الصورة الشائعة عن الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية في عالمنا العربي- خاصةً في أوساط الشباب- أنه العالم المثالي أو العالم الذي نتمنى أن نعيش فيه؛ ولذلك نجد معظم الشباب، بل كثيرًا من الكبار، فضلًا عن المثقفين أنفسهم، نجدهم مفتونين بمعايير الغرب وقيمه الأخلاقية، بل قيمه الفنية والجمالية كما تتبدى في الأعمال الفنية، خاصةً في الموسيقى والغِناء! ولا شك في أن هذه الصورة الشائعة لها ما يبررها: فالغرب ما زال هو نموذج التحضر في أذهان الناس في العوالم المتخلفة، وما زال هو نموذج الديمقراطية التي يفتقرون إليها في بلدانهم، وما زال هو نموذج الثراء الذي يحلمون به في مقابل البطالة والعوز في بلدانهم الفقيرة؛ ولهذا نرى مئات الشباب يموتون سنويًّا في هجراتهم غير الشرعية إلى بلدان أوروبا عبر البحر، فيخاطرون بحياتهم بركوب قوارب غير مؤهلة لشق عباب البحر عبر رحلات غير آدمية تدبرها مافيا متخصصة؛ ليغرق معظمهم وينجو أقلهم. وحتى مَن ينجو من هؤلاء سيكتشف في النهاية أن كل ما كان يحلم به هو مجرد وهم؛ فالولايات المتحدة لم تعد تمثل «الحلم الأمريكي» مثلما كانت في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والغرب عمومًا لا يمكن الآن أن يفسح صدره إلا لمن يمكن أن يستفيد منهم من العلماء وأصحاب المواهب في المجالات المختلفة، فهو يرعاهم ويطور من إمكانيتهم ومواهبهم لأجل مصلحته الخاصة؛ أما من هم دون ذلك، فسيتم ترحيلهم أو- على الأقل- سيعيشون مطاردين أو منبوذين باعتبارهم عبئًا على هذه الدول المتقدمة التي أصبحت تعاني الآن اقتصاديًّا، فضلًا عن نزعتها العنصرية إزاء الآخر من الأصول العربية والإسلامية خاصةً، وأصحاب البشرة غير البيضاء عمومًا. وأنا لا أهدف هنا إلى إلقاء اللوم على هؤلاء الشباب؛ لأنهم في النهاية يستحقون الشفقة باعتبارهم ضحايا أوطانهم التي لفظتهم، فلجأوا إلى دول سوف تلفظهم أيضًا؛ وإنما أريد فحسب أن أكشف عن ذلك الوجه الآخر القبيح للغرب، وهو وجه أصبح الآن مكشوفًا من دون مواربة من حلال سمات وشواهد عديدة نُجمل أهمها فيما يلي في النقاط التالية:
* سياسة الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية تتبنى معايير مزدوجة، يشهد بذلك مواقفها المؤيدة لإسرائيل، رغم كل جرائمها ضد الشعب الفلسطيني؛ وهي مواقف تساوي- في أفضل الحالات- بين المحتل للأرض بعد 1967 وأصحاب الأرض الذين يتم اغتصاب أرضهم وتجريفها والتنكيل بسكانها؛ فإن دافع أصحاب الأرض عن أنفسهم، يتم وصفهم بالإرهابيين. كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من العالم كل يوم، رغم وجود قرارات دولية لصالح الشعب الفلسطيني لا تحتاج سوى تفعيل أو اتخاذ مواقف حاسمة. فلننس إذن مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب التي يدعي الغرب أنها تمثل أساس سياسته الدولية.
*دعم الغرب غير المحدود لأوكرانيا في حربها ضد روسيا ليس من أجل أوكرانيا أو من أجل عيون الأوكرانيين الزرقاء (كما صرح بذلك أحد الإعلاميين في مقولة هي في حد ذاتها عنصرية)، وإنما هو دعم من أجل استنزاف روسيا كقوة عالمية تتحالف مع الصين وغيرها من التكتلات الآسيوية في مواجهة مركزية الغرب؛ وبالتالي من أجل تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قد بدأ في التشكل بالفعل على أرض الواقع، ولكن الغرب لا يريد الاعتراف بتلك الحقيقة المؤلمة. ما أقصده هنا هو أن الحرب الروسية الأوكرانية قد كشفت عن الوجه الآخر للغرب غير المعلن، الذي يحتشد ضد حرب روسيا على أوكرانيا، وكأن أوكرانيا جزء منه ولم تكن يومًا جزءًا من روسيا الاتحادية.
*ينتقد الغرب – خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية- إعادة مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، ويصرح زعماؤه بأن ذلك انتكاسة لحقوق السوريين الذين ظلمهم وقتلهم النظام السوري! ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعبث في الأراضي السورية، وتتواجد عسكريًّا في أراضيها، لا من أجل الشعب السوري، ولا لمصلحة المعارضة السورية، وإنما لمصلحة إسرائيل وفي مواجهة نفوذ القوة الإيرانية في سوريا. وليس هذا بالجديد على السياسة الأمريكية؛ فليس الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق ببعيد؛ فلم يكن هذا الغزو من أجل القضاء على أسلحة الدمار الشامل، وهو ما ثبت فيما بعد أنه كذبة كبرى. كما أن عملية تحرير الكويت من الغزو العراقي لم تكن من أجل الكويت باعتبارها دولة مستقلة، وإنما من أجل تأمين منابع النفط في منطقة الخليج.
*حاول الغرب في الآونة الأخيرة التدخل في الانتخابات التركية بتشويه صورة أردوغان لمصلحة مرشح الحزب المعارض كمال أوغلو، فقط لمجرد أن أردوغان ليس تابعًا لسياسات الغرب، كما أن سياسته تربط تركيا بعلاقات وثيقة بروسيا وإيران. ولما شعر الغرب أن أسهم أردوغان واحتمالية فوزه بالرئاسة لا تزال قوية في الجولة الثانية للانتخابات، سرعان ما غيرت الأذرع الإعلامية للغرب من مواقفها المعلنة ضد أردوغان، لتصدر صورة عن نفسها باعتبارها حيادية!
*ربما لا يكون كل ما سبق في أذهان الشباب البسطاء الذين يهاجرون بطرق غير شرعية إلى دول الغرب، وربما لا يكون في أذهان غيرهم من المفتونين بالغرب، ولكن حينما يتعرف هؤلاء على مواقف هذا الغرب اللاإنسانية إزاء الأغيار من البشر، فإن الصورة المتخيلة لهذا الغرب سوف تهتز في نفوسهم. يكفي هؤلاء الشباب أن يسألوا غيرهم ممن خاضوا التجربة وعايشوها عن قرب، وسوف يتبين لهم أن غيرهم قد عانوا كثيرًا من الاحتقار الذي يبلغ حد الاعتداء أحيانًا، خاصةً إن كانوا يعلنون عن هويتهم الإسلامية، كما هو الحال إزاء النساء ممن يرتدين الحجاب على سبيل المثال.
مقصودي من هذا كله هو أننا ينبغي ألا ننظر إلى الغرب باعتباره نموذج الحرية والعدالة والديمقراطية، مع كل إكبارنا للشروط التي صنعت تقدمه علينا.
