الميزانية العامة للدولة وآفاق المستقبل

02 يناير 2024
02 يناير 2024

تم اعتماد الميزانية العامة للدولة من قبل المقام السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أمس الأول إيذانا بتدشين العام الميلادي الجديد حيث تضمنت تلك الميزانية مؤشرات إيجابية على صعيد النمو والإنفاق وخفض الدين العام، وأيضا انخفاض العجز بشكل ملحوظ. وكان من الطبيعي أن تحظى القطاعات الأساسية بنصيب مهم من الميزانية خاصة قطاعي التعليم والصحة لما يقارب ٣ مليارات ريال عماني كما خصص لقطاع الحماية الاجتماعية مبلغًا مهما يزيد عن نصف مليار ريال، علاوة على بقية القطاعات ودعم الخدمات المقدمة للمواطنين خاصة قطاع الطاقة والمياه والكهرباء والصرف الصحي. ولعل صرف الترقيات منذ الأمس لعدد كبير من موظفي الجهات الحكومية يعطي مؤشرا على تعافي الاقتصاد الوطني، وأن المستقبل يعطي مؤشرات على اتجاه النمو الاقتصادي وهو الملف الأساسي الذي يحظى بالرعاية السامية؛ لأن بقاء اقتصاد أي دولة في حالة النمو والمؤشرات الإيجابية يعني تقديم خدمات أفضل للمجتمع والوصول بالمؤشرات التي تخطط لها رؤية عمان ٢٠٤٠.

ومن هنا فإن المشهد الاقتصادي وعلى ضوء الأرقام المحققة يعطي مؤشرًا جيدًا من خلال النمو وبذل المزيد من الجهود من الجهات الحكومية ذات العلاقة بالاقتصاد. وهنا نتحدث عن بعض الملاحظات التي تحتاج إلى حلول وتقييم حقيقي في المرحلة القادمة خاصة على صعيد مساهمة قطاع الطاقة وهو النفط والغاز وبقية القطاعات غير النفطية.

الملاحظ على الميزانية العامة للدولة وخلال العقد الأخير بأن قطاع النفط والغاز لا يزال يشكل قرابة 70 بالمائة في حين الموارد غير النفطية حوالي ٣٢ بالمائة ومن هنا فإن هذه المعادلة ينبغي أن تتغير على ضوء خطة محددة قد تكون مشابهة لخطة التوازن المالي والتي حققت نتائج إيجابية خاصة على صعيد خفض الديْن العام للدولة. ولذا فإن خطة التوازن الاقتصادي بين قطاعات النفط والغاز وبقية القطاعات الإنتاجية غير النفطية لابد من السير فيها بشكل قوي ومخطط، والتساؤل هنا لماذا الدعوة إلى هذا الطرح؟

المعروف أن سلعة النفط بالتحديد شهدت خلال نصف قرن عددا من التقلبات والصدمات الكبيرة التي أثّرت على التنمية في الدول التي تعتمد على هذه السلعة الإستراتيجية بشكل كبير ومن هنا يمكن رصد الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي تسببها الصدمات النفطية حيث أصبح التحوط لإيجاد التوازن في مسألة القطاعات النفطية وغير النفطية ضرورة وطنية لا حياد عنها في هذه المرحلة. ومن هنا فإن خطة التوازن في المجالات الإنتاجية لا بد من العمل عليها على المدى المتوسط والبعيد، حيث إن الوصول إلى 50 بالمائة خلال السنوات الأربع القادمة في مساهمة القطاعات غير النفطية سوف يكون إنجازا إستراتيجيا؛ لأن التوازن الاقتصادي والمالي ليس فقط تقديم الخدمات والاستدامة المالية في مجال التنمية ولكن يدخل في إطار استقرار الدول والمجتمعات.

وعلى ضوء ذلك فإن هناك قطاعات لابد أن تفعّل دورها خاصة قطاعي الصناعة والسياحة، علاوة على قطاع الموانئ حيث إن الوصول بتلك القطاعات إلى إنتاجية أكبر لن يؤدي فقط إلى التوازن الاقتصادي بين القطاعات المختلفة، ولكن سوف يخلق آلاف الوظائف للشباب العماني. كما أن الوصول إلى التوازن بين القطاعات أو ما يسمى بتنويع الاقتصاد سوف يجنّب بلادنا سلطنة عُمان أي صدمة محتملة للنفط، خاصة وأن الأحداث الجيوسياسية والصراعات والحروب والخلافات الدولية في مجال الطاقة سوف يكون لها تأثير كبير على صعيد تلك السلعة الإستراتيجية كما أن إيجاد اقتصاد متنوع يعطي الاطمئنان للمخطط والخطط التنموية، بل وحتى انطلاق رؤية عمان ٢٠٤٠ نحو أهدافها بشكل أسرع.

إن بلادنا سلطنة عُمان تحتاج إلى رؤية اقتصادية تقوم على تنويع الاقتصاد وتفعيل الموارد الطبيعية واستغلال موقع سلطنة عُمان الإستراتيجي والمثالي على البحار المفتوحة على الصعيد التجاري.

إن الجهود الكبيرة التي يبذلها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ واضحة ومتواصلة؛ حيث استطاع جلالته أن ينجز الكثير في مدة قياسية لا تتجاوز 4 سنوات خاصة على صعيد عبء الدين الخارجي وتحقيق مؤشرات إيجابية في التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف الدولية علاوة على جملة من القوانين والتشريعات التي تساهم في التنمية الشاملة. كما أن قانون الحماية الاجتماعية يعد من الإنجازات الكبيرة لضمان استقرار المواطن العماني علاوة على قانون المحافظات وتنميتها، وما الزيارات السلطانية التي يقوم بها جلالته ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى الدول الشقيقة والصديقة إلا ترجمة لتلك الجهود في سبيل المزيد من التقدم والازدهار للوطن والمواطن.

إن الصناعة في تصوري هي قاطرة للاقتصاد الوطني في المرحلة القادمة من خلال المزيد من الاستثمارات في المجال الصناعي وزيادة الإنتاجية وتحريك الصادرات، كما أن قطاع الصناعة يخلق المزيد من الوظائف. حيث إن ملف الباحثين عن عمل يعد الآن من أهم الملفات الوطنية، وفي تصوري أن الخيار الأمثل هو قطاع الصناعة والسياحة إذا ما تم استثمار هذين القطاعين بشكل أكثر فاعلية؛ لأن الجهاز الإداري للدولة لا يستطيع توظيف كل الباحثين عن عمل، وهذا ينطبق على كل دول العالم.

ومن هنا فإن على الفريق الاقتصادي في الحكومة خاصة وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ووزارة الاقتصاد، ووزارة السياحة، وجهاز الاستثمار العماني، وبقية الجهات الحكومية الأخرى ذات العلاقة وأيضا مجلس عُمان من خلال لجانه الاقتصادية والمالية ووزارة المالية، البحث بجدية عن ضرورة إيجاد إستراتيجية تفعيل القطاعات غير النفطية وتفعيل خطط غير تقليدية لإيجاد اقتصاد متنوع مستدام لا يركن عند تقلبات أسعار النفط، حيث أصبحت هذه السلعة أقرب إلى توصيفها بالسلعة السياسية التي تخضع للمناورة والمنافسة بين الدول الكبرى، ويمكن استخلاص العبر من الحرب الروسية الأوكرانية وكيف تمت المواجهة الشرسة في مجال الغاز تحديدا بين روسيا الاتحادية ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

إن بلادنا سلطنة عُمان لديها من القدرات والإمكانيات الطبيعية والبشرية ما يمكنها خلال سنوات قليلة من خلق اقتصاد متنوع ديناميكي لا يعتمد على قطاع واحد، كما أن مشاريع الطاقة المتجددة هي خيار مثالي لإيجاد مقاربة اقتصادية تساعد على التنوع الاقتصادي واستدامة التنمية المستدامة وهو الهدف الاستراتيجي الذي ركّز عليه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ خلال كلماته السامية والتي كان آخرها في افتتاح الانعقاد الأول لمجلس عُمان من الفترة الثامنة. ومن هنا فإن المشهد الاقتصادي يسجل مؤشرات إيجابية وقضية التنويع الاقتصادي والتوازن بين القطاعات أصبح ضرورة وليس خيارًا.