المواطنة بين أنانية الحمداني وغيريّة المعرّي

31 مارس 2024
31 مارس 2024

يقينا نختلف في تلقينا معطيات الواقع اليومي حياتيا ووظيفيا، فمنّا من شغلته مشقة العيش وتحديات الواقع اليومي عن التنظير والتحليل والمقارنة، ومنّا من سخّر كل تفكيره لأهداف ذاتية وضعها نصب عينيه وسعى لها غافلا أو متغافلا أي عموميات لا تشير مباشرة إلى مسار أهدافه الموضوعة، وإن التفت لأي من المسائل العامة فتلك المرتبطة ارتباطا وثيقا بمصلحته وأهدافه، ومنا أولئك القلة الذين يشغلهم الوضع العام تماما كما ينشغلون بيومياتهم ولا يملكون فصل هذا عن ذاك لاعتقادهم الجازم بارتباط الأمرين وتكامل المسارين، كما أنهم مؤمنون بدورهم ومسؤوليتهم في المشاركة برسم كل مسارات الغد، وتذليل صعوباته وتجسير ضفافه.

هكذا يتأرجح الناس في تمثلهم مفهوم المواطنة بين شكلين من أشكال التفكير فرديا على نهج أبي فراس الحمداني، أو مجتمعيا مع أبي العلاء المعري؛ بين أنانية الحمداني وغيرية أبو العلاء المعري، وإذا ما تساءلنا عن تخصيص كل من المعري والحمداني فالبدء بتلخيص المقارنة أمر لا بد منه لمن لم يسبق أن تعرف عليها، أما الأول فبيت شعر للحمداني الذي استغرقه الشعور بالاستحقاق العالي الذي هو أهل له مقابل تهميش وإقصاء ابن عمه المتنفذ سيف الدولة الحمداني، معاناته في سعيه لبلوغ مكانته رغم وقوعه في أسر الروم، ثم كل قصائده استعطافا وأملا في بلوغ طموحه دون جدوى، البيت -أو حتى شطر البيت إن أردنا التحديد- من قصيدته الشهيرة «أراك عصي الدمع»:

مُعللتي بالوصلِ والموت دونه

«إذا مِتُّ ظمآنا فلا نزل القطرُ»

حفظتُ وضيّعتِ المودةَ بيننا

وأحسن من بعض الوفاءِ لك العذر

رغم أن السياق هنا سياق عاطفي، فإنه يعبر بوضوح عن أن صاحبه سئم التعلل بالمُنى وانتظار الخير المرجى في غد، مما دفعه لهذه الصرخة التي يعلن فيها صراحة أنه إن لم يأت القطر (المطر) لأرتويَ أنا المُستحِق ويذهب ظمأي فلا نزل المطر ولا سقى مخلوقا غيري، ولا يخفى ما في ذلك مما صار مثالا جليا على الأنانية وحب الذات منقطعا عن أي خير للآخرين ممن لا يقعون ضمن دائرة قلق أو حتى اهتمام الطموح الأناني، وما الخير الذاهب لغيره حينها سوى محض استفزاز لصبره وترقبه على مضض.

ثم يأتي أبو العلاء المعري بإنسانيته العالية وغيريته التي احتفى بها الاجتماعيون والتواصليون مثالا على المشاركة وحب الخير للغير في قوله:

ولو أنّي حُبِيتُ الخُلْدَ فَـرْداً لمَا أحبَبْتُ بالخُلْدِ انفِرادا

(فلا هَطَلَتْ عَلَيّ ولا بأرْضي سَحائبُ ليسَ تنْتَظِمُ البِلادا)

المعري الذي لا يريد أن تكون الجنة له وحده، بل مع الآخرين، ولا يقبل بمطر يصيب أرضه وحدها دون أن يعم غيثه على البلاد جميعها، يرفض الخير الخاص بالنخبة ويريده عاما شاملا.

أتذكر المقابلة بين الفريقين من أتباع الشاعرين عبر القرون بعد كل إعلان لمراسيم أو توجيهات يراد بها خير هذه الأرض الطيبة التي نحبها وتحبنا، فإن أعلنت سعادتي حينها ظن من حولي أنني مشمولة مباشرة بعائد المعلن، رغم أن الحقيقة أنها إن شملت بعضنا شملتنا جميعا، فإن لم يكن تكاملا فتتابعا تفاؤليا يقضي بأن أول الغيث قطرة، تذكرتها في الأيام الماضية مع التداول الرقمي لموافقة مجلس الوزراء على مواءمة رواتب شاغلي وظيفة مديري العموم ومن في حكمهم بالقيمة السوقية المستهدفة لتلك الوظائف بصرف بدل تكميلي ابتداء من يناير الماضي؛ ما أثير بعدها من نقاشات وما صدر عنها من ردود فعل على شكل تغريدات رقمية وردود تفاعلية وحتى نقاشات واقعية بين محتفين بها خطوة رائعة للنهوض بمقتضيات هذه المرحلة من التمكين إنعاشا للواقع الاجتماعي المحلي معتبرين ذلك منجزا في قائمة أطول لما تحقق وما سيتحقق بإذن الله من قرارات وإجراءات ساعية لتعزيز بيئة العمل، وتحفيز الإنتاجية من لدن قيادة حكيمة تؤمن بالإنسان محورا رئيسا لكل خططها ورؤاها ومنجزاتها، وبين آخرين انتظروا (ربما) منجزات أُخَر تخصهم هم، بصبرهم وأحلامهم المعلقة بتحسن الأوضاع محتفظين بصمت المترقب آملين خيرا قريبا ووعدا ناجزا عميما، ثم «الحمدانيون» الذين لم يستطيعوا إخفاء صرخة «إذا مِتُّ ظمآنا فلا نزل القطرُ» فانبروا في ميادين الواقع الافتراضي الرقمي أو في واقعهم الحقيقي بين مقللين من استحقاق زملائهم، أو غاضبين من عدم الالتفات للأقل دخلا، أو للباحثين عن عمل أولا، منتقدين كل ما يصدر عن أي قرار أو توجيه إن لم يصبهم وابل مباشر منه.

وعلى أن لدينا ما نشكوه مما قد يعطل الوعي بأهمية المنجز والاحتفاء به إلا أن الجميل أن نتلبس جميعا رداء أبي العلاء المعري في شعوره التكاملي الإنساني، وهذا لا ينسحب على متلقي الخبر وحسب، بل نرجو أن ينسحب كذلك على مديري العموم ومديري الدوائر ورؤساء الأقسام أنفسهم في استشعارهم جميعا هذه المسؤولية التكاملية المُمَكِّنة للجميع، المُهيئة لأسباب العمل المخلص، والجهد الابتكاري الساعي لاستثمار الموارد المتاحة تفعيلا ذكيا للوقت والجهد معا دون ترفع طبقي على مرؤوسيهم، أو استغلال غير عادل لمهاراتهم وإنتاجيتهم، أو تقييم غير واقعي لجهودهم وخبراتهم، وأن لا يؤخذوا بالمنصب والتمييز وفارق الراتب للوقوع في شَرَك «أنانية» أبي فراس معتقدين تفوقهم، مقررين سقفا أعلى لأدائهم ومهاراتهم وخبراتهم متناسين موظفيهم في انشغالهم بذواتهم العالية، ثم العجب بعدها من انخفاض الإنتاجية وخفوت الهمة وزوال محفزات الإنتاج والطاقة، وهم المتمنون زوال الخير عن الجميع إن لم يصبهم كله أو جله، فما عليهم لو أنهم تجاوزوا النظرة المادية الضيقة لرحابة ما روي عن حاتم الطائي في قوله:

إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع

رفيقك يمشي خلفها غير راكب

أنخها فأردفـه فإن حملتكما

فذاك وإن كان العقاب فعاقبِ

سخاء وذكاء اجتماعي وإن كان هذا سياق آداب السير وركوب الناقة غير أنه صالح للقيادة وذكاء التواصل، فإن كنت راكبا ورفيقك لا ركوب له فشاركه ناقلتك، فإن لم تستطع فتعاقبا على الركوب لتظفرا معا برحلة طيبة ورفقة آمنة.

بهذا وحده تنهض بلاد كاملة؛ بوعي أبنائها وتكامل مرئياتهم وذلك العطاء المتبادل بين قيادةٍ مُؤمنة بإنسانها معززةٍ طاقاته وقدراته، وإنسانٍ واثقٍ بقيادته مُدركٍ لمسؤوليته بناءً وتنمية.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية