المدينة كفضاء لهوية السلم الأهلي

12 يوليو 2023
12 يوليو 2023

لا تختبر الحداثة هويتها فقط بذلك القطع الذي قطعته مع المرجعيات القديمة للعصور الأولى فحسب، بل إن كذلك من أهم القيم التي تختبر بها الحداثة هويتها؛ تلك القدرة على صياغة الفرد الموضوعي غير القابل للقسمة على أحد، والقابل لأن يكون فردا متمدنا بسبب من العيش في الحياة المدنية.

وإذا كانت الفردية من أهم القيم التي ارتبطت بها هوية المدينة فإن تلك الهوية ذاتها إذ تجعل نفسها ضامنة للحياة المنفتحة على هويات الأفراد واستقلالهم؛ فإنها كذلك تعكس بالضرورة قيما عليا لذلك الفهم والوعي المديني الذي من شأنه أن يسكِّن التوترات التي تنجر عن النزعات والهويات الأولى للأفراد.

ذلك أن الحياة المدنية التي تتعذر فيها الروابط والهويات الصغيرة، ويصبح الفرد / المواطن فيها فردا مستقلا بفكره ورؤيته عبر التعليم المدني؛ تعكس اهتمامات الأفراد فيها جوانب أخرى من تأثير المدينة على نشاطهم وهواياتهم؛ متصلة بصورة الوعي المديني الذي تعبر عنه الحياة الحضرية في الترفيه والرياضة والفنون والمسرح. ومن شأن أنماط المدينة في التعبير عن الحياة المنفتحة أن تجعل من التعبير عن الهويات الصغيرة الطائفية والقبلية والمناطقية هامشيا جدا وغير ذي أثر. وهكذا حين يتم تسكين تلك الهويات الصغرى عبر الحياة في المدينة ونزع قدراتها التدميرية المفخخة للسلم المجتمعي؛ يتوارى شبح النزاعات والحروب الأهلية الكبيرة.

لذا يمكننا القول إن الحياة الحقيقية للمدينة هويتها السلم وطبيعتها التحضر. وإذا ما بدا لنا أن العديد من المدن العربية اليوم لا تعكس الهوية السلمية للمدن فإن الإشكال هنا يتصل بأزمة العلاقات البينية لسكان تلك المدن وضمور هوية الوعي الفردي وقيمة المواطنة فيها بالضرورة، ما يعني أن احتمالات النزاع الأهلي والحروب ستظل قائمة، وإن كانت غير ظاهرة، فالمدينة حين تضمن تسكين أسباب الحروب الأهلية ونزع القدرات التدميرية للهويات الصغيرة بالوعي والمعرفة؛ ليست هي فقط بنايات وعمران، وإنما هي كذلك شبكة رمزية تعكس البنية الفوقية للوعي والتحضر والأفكار الأساسية لقيم المواطنة والسلم والتعايش. وهوية المدينة، أيضا، تعكس هوية الفرد وانتماء المواطنة بأكثر الطرق تعبيرا عن السلام المجتمعي، ففي المدينة تتعذر الهويات الجمعية الصغيرة كالقبيلة والطائفة لتحل محلها هوية الفرد ككائن موضوعي لا يقبل القسمة على أحد.

كما أن علاقات المدينة التي تؤثر في خيارات الأفراد، وأنماطها ومؤسساتها ونواديها وميادينها تعزز ارتباطا مدنيا إيجابيا عابرا للهويات الصغيرة، ومنفتحا على التنوع والاختلاف، مما يخفف كثيرا من النعرات والانقسامات الحادة التي تعكسها هويات ما قبل الحداثة.

وعبر هذا المعنى الذي ذكرناه آنفا، لا يمكن القول إن مطلق التجمعات البشرية الكبرى حتى وإن بدت أمكنتها مخططةً على هوية البناء المدني؛ أنها بالضرورة تجمعات مدينية، فالبنية الذهنية لهوية المدينة إذ تكمن في هوية الفرد بوصفه فردا حديثا لا بد أن تنعكس تمثلاتها في الاجتماع البشري للذين يعيشون في ذلك الفضاء المدني، بمعنى آخر؛ ثمة اقتران شرطي بين ساكني المدينة وبين النظام الرمزي للوعي والتعليم الحديث. ذلك أن التمدن لا يعني الاستقرار فقط، بل يعني كذلك القدرة على استيعاب فكرة التعايش مع الآخر وتطوير مهارات ذلك التعايش. ولعله من الجدير بالذكر هنا أن نؤكد على أن استيعاب قيمة التعايش لا يقترن اقترانا شرطيا مع فكرة الحداثة الأداتية أو فكرة التحديث. فالغرب اليوم أصبح يستوعب فكرة الاختلاف مع الآخر وفق أرقى أنماط العيش كرامة، كما أصبحت الولايات المتحدة النموذج الأمثل لهذا التعايش.

هكذا، حين نطل اليوم على مفهوم المدينة المتحقق بالمعنى السياسي لهوية المدينة، قد لا نجد اليوم مدينةً عربية قادرة على أن تجسد حصانة ذاتية من حروب الهويات الأولية كمدينة القاهرة، بحسب أدونيس، الذي استثنى القاهرة في كونها المدينة العربية الوحيدة القادرة على تسكين التوترات والنزعات التي تصدر عنها الحروب الأهلية، أي تلك الأنماط القبائلية والطائفية الحادة.

ولئن كانت القاهرة اليوم ذلك الاستثناء العربي في هوية المدينة المانعة بطبيعتها المنفتحة من الانقسامات العمودية؛ الأهلية والطائفية التي في العادة ما تكون خزانا للحروب الأهلية، فإن إرث الإنسان المصري قديما وعلاقته بالدولة والأرض والنظام هو ما سيكون في خلفية ذلك المعنى العريق للمدينة، أكثر من غيره!