المتحف المصري الكبير: أهمية الحدث ودلالته
وحينما تتكفل الدول صاحبة الحضارات بهذه المهمة، فإنها بذلك تستجيب لإرادة شعوبها التي تحمل إرث الماضي التليد في باطنها، ولا تقوم بتغييب هذا الإرث. وفي ضوء هذا أتحدث عن المتحف المصري الكبير كمثال راهن حي على ما أقول.
استغرقت دراسات الجدوى والتوصل إلى مصادر التمويل عقدًا كاملًا إلى أن بدأ التنفيذ الفعلي سنة 2002 بوضع حجر الأساس والشروع في البناء الذي توقف بضع سنوات بعد أحداث ثورة يناير 2011.
ولذلك فإننا لا ينبغي أن ننسى أبدًا دور فاروق حسني في إنشاء هذا المتحف الذي هو صاحب فكرته والذي أشرف على بنائه سنوات عديدة. ولقد ساهم في إنشاء هذا المتحف مؤسسات دولية متخصصة في مجالات وتفاصيل كثيرة، تنتمي إلى اليابان وإيرلندا وهولندا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا وكندا، وغيرها، فضلًا عن المؤسسات المصرية.
وأنا أقول ذلك باعتباري متخصصًا في مجال الجماليات، بما في ذلك جماليات الموسيقى. وكم كنت أتمنى أن يتولى الفنان الكبير فاروق حسني الإشراف ـ أو على الأقل المشاركة في الإشراف ـ على العروض الموسيقية باعتباره على ثقافة فنية وموسيقية رفيعة المستوى قلّما نجد لها مثيلًا، وهوـ كما ذكر لي ـ لم يكن ليتأخر عن هذه المهمة لو طُلِب منه ذلك. ولكن كل ذلك لا يطعن في أهمية الاحتفال وروعته في تفاصيل أخرى عديدة، ولا يطعن في أهمية الدلالة الكبرى التي يعبر عنها هذا الحدث.
بل زاد بعضهم على ذلك بالقول في استنكار: وما قيمة الاحتفال بأصنام الماضي من آل فرعون؟ وهو ما يكشف عن جهالة وعن نية سيئة في تسفيه دلالة الحدث؛ إذ راح بعضهم يتندر على قيمة التمثال المهيب لرمسيس الثاني، بل على قيمة وأهمية كل تماثيل الحضارة المصرية القديمة، وهم يستشهدون في موقفهم هذا بآيات القرآن التي تستنكر أفعال آل فرعون من دون أن يتساءلوا عن حقيقة الفرعون المقصود في القرآن: فكلمة فرعون في القرآن لا تعني كل أو أي فرعون حكم مصر، وإنما تشير إلى فرعون الخروج، وهو بالمناسبة ليس الملك العظيم رمسيس الثاني، وإنما هو على الأرجح ابنه مرنبتاح صاحب لوحة الانتصار التي ورد فيها النص الوحيد الذي قد يكون له صلة بذلك؛ إذ جاء فيه قوله: إنه الآن قد استأصل شأفة بني إسرائيل وقضى عبى ذريتهم؛ ولذلك يُعتقد أنه هو فرعون الخروج، وإن كان هذا غير مؤكد؛ إذ يُقال أيضًا أنه أحد ملوك الهكسوس الذي حكم مصر في فترة النبي موسى.
والحقيقة أن كلمة «فرعون» تعني البيت العالي، وهو أي بيت يسكنه الحاكم الملك، ولا تشير إلى حاكم بعينه.
ومن هنا يمكن أن نفهم فرحة المصريين بافتتاح المتحف المصري، حتى إن حوالي مليوني مصري قد نشروا على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال الذكاء الاصطناعي صورًا لهم ولأطفالهم وقد ارتدوا الأزياء الفرعونية.
والحقيقة أن أغلب من طعنوا في أهمية افتتاح المتحف المصري هم من المتأسلمين الجاهلين بالحضارة المصرية القديمة، فهم لم يقرأوا شيئًا من الموسوعات العربية عن هذه الحضارة، ومنها موسوعة سليم حسن؛ بل لم يقرأوا حتى كتاب جيمس هنري برستيد بعنوان «فجر الضمير».
فالفراعنة لم يكونوا مستبدين بل كانوا يمتثلون لأحكام الآلهة «ماعت» آلهة التوازن في الكون والعدالة والأخلاق في النفس بالنسبة إلى الحكام والمحكومين؛ وتاريخ حضارتهم العظيمة هو الذي خلد ذكراهم وجعل العالم يفتتن بإنجازاتها في مجالات العلم والفن والأخلاق؛ ويا ليتنا نتأسى بشيء من ذلك في زماننا هذا.
