القيادة العلمية تحت الميكروسكوب

24 أكتوبر 2023
24 أكتوبر 2023

في الثامن عشر من فبراير من عام 2022م، ضجت وسائل الإعلام الأمريكية بخبر استقالة المدير الحادي عشر لمكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا في مجلس الوزراء الرئاسي الأمريكي، والمستشار العلمي للرئيس جو بايدن، جاء ذلك التنحي بعد تسعة أشهر من أدائه القَسَم على أحد أقدم الكتب الدينية، أعلن المستشار اعتذاره، وغادر منصبه على أثر تورطه بشكاوى سوء الإدارة التي وصلت لدرجة التنمر، والسلوك المسيء لفرق العمل، قد تبدو لكم هذه القصة نمطية مثل أية حالة فشل إداري، ولكنها ليست كذلك! هذا المستشار هو البروفيسور إريك ستيفن لاندر عالم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية، وعالم الرياضيات، والمدير المؤسس لمعهد برود بجامعة هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكذلك أستاذ علم أحياء الأنظمة في كلية الطب بجامعة هارفارد، وأستاذ علم الأحياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمؤسس الفخري لمعهد برود البحثية، وهو زميل «منحة ماك آرثر» العلمية المرموقة، ورائد المبادئ الأساسية لاكتشاف الجينات الكامنة وراء الأمراض البشرية، وأحد القادة الرئيسيين لمشروع الجينوم البشري الدولي، وتكاد تشمل أبحاثه معظم جوانب الجينوم البشري، بما في ذلك الأساس الجيني للأمراض الوراثية، ومرض العصر السرطان، وتاريخ السكان البشري، والحمض النووي الريبوزي الطويل غير المشفر، والطي ثلاثي الأبعاد للجينوم، وأسفرت جهوده البحثية عن تسجيل وإدراج (73) براءة اختراع على مدى تاريخه العلمي الحافل، وقبل منصبه الذي استقال منه تم تعيينه من قِبل الرئيس السابق باراك أوباما في عام 2008 ليشارك في رئاسة مجلس مستشاري الرئيس الأمريكي للعلوم والتكنولوجيا، الذي يقدم المشورة للبيت الأبيض بشأن مسائل علمية ذات الصلة بالقرارات الكبرى في قطاعات الصحة، والتصنيع، والطاقة، وتقنية الاتصالات، وتكنولوجيا النانو.

هذه القصة تقودنا لأهم سؤال يؤرق المجتمع العلمي والبحثي وهو: هل غفلت مبادئ الإدارة والقيادة عن موضوع «القيادة العلمية»؟ وهل كل عالم أو خبير تقني قادر على قيادة الباحثين في المختبرات، والمكتشفين في معاقل الابتكار، والتطوير التكنولوجي؟ وهل حقًا تختلف إدارة وقيادة المؤسسات العلمية والبحثية عن إدارة المؤسسات العامة والخاصة؟ والسؤال الأكبر الآن هو: هل القيادة العلمية أعقد مما ظن علماء ومفكرو الإدارة من قبل؟ أم أن العلم يقود نفسه بنفسه من خلال الجهات التمويلية، ومؤسسات النشر العلمي التي توجه أولويات البحث العلمي، والاكتشاف، والابتكار في ظل تدويل العلوم؟ في البدء دعوني أستعير بعض القوال الشائعة في مقاربات القيادة، مثل: «إذا قدمت لي عرضًا وتأثرت عاطفيًا، فربما تكون فنانًا رائعًا، أما إذا قمت بنقلي جسديًا من مكان لأخر، فأنت بلا شك حافلة، ولكن إن تمكنت من قيادة الحافلة، والتأثير كفنان في وقت واحد فأنت قائد»، قد تبدو هذه الكلمات وصفًا شاعريًا للقيادة ولكنها واقعية جدًا، القادة هم ذلك النوع من المديرين الذين يمتلكون ميزة الجمع بين التأثير العاطفي الذكي لامتلاك الحلم، واتخاذ الخطوات العملية في تحقيق ذلك الحلم، وهذا ينطبق على كل القادة، ولكن الأمر يتطلب ميزات أخرى إضافية في القيادة العلمية، فالأكاديميون والباحثون والمخترعون استثنائيون في التعلم، وحل المشكلات، والارتقاء إلى مستوى التحديات المعرفية، والمساهمة في إثراء المعارف الإنسانية، وتغيير حياة البشرية بالاختراعات العلمية، ولذلك يجب فهم هذه الخصوصية بشكل أعمق من مجرد إدارة مؤسسة بحثية، أو لجنة علمية، فالقيادة هنا تعني خلق الدافع، والإلهام للعمل، أكثر من مجرد التأكد من أن الفريق العلمي يفعل ما ينبغي أن يفعله، فالبحث العلمي عمل إبداعي، ومعقد، ويحتاج للشغف والفضول، وهو في ذات الوقت هو مجال مليء بالنكسات، والفشل، والضغوطات الخارجية من قبل مؤسسات التمويل، ومن المجتمع المستفيد للجهود البحثية والابتكارية، أما العمل في اللجان العلمية التخصصية، والأكاديمية فهو لا يقل تعقيدًا عن العمل في المراكز البحثية، إذ يتطلب مهارات علمية، وتقنية وإدارية، واجتماعية، وأخلاقية، ودبلوماسية، والقيادة العلمية هنا مسؤولية كبيرة، وقد يكون من الصعب العثور على القادة العلميين المتمكنين، وإن وجدوا فمن النادر الوصول للقيادة الناجحة في معظم الأوقات، وهذا ما يستوجب التوقف عن الاعتماد الكلي على العلماء اللامعين، والمتفوقين من أصحاب الإنجازات العلمية الخارقة لقيادة المؤسسات واللجان العلمية، في المقابل يجب التركيز على بناء القادة العلمين من خارج هذه الهالة البراقة كضرورة قصوى وعاجلة؛ لأن فقدان الموهوبين علميًا وأكاديميًا بسبب سوء الإدارة يلحق خسائر عميقة بالأوساط الأكاديمية، والعلمية، والمجتمع المعرفي كله.

إذن أين تكمن الصعوبة في القيادة العلمية؟ لا توجد إجابة سهلة عن هذا السؤال، ولكن اعتمادًا على القياس، فكما أن القائد الأكاديمي الذي لا يؤمن بأهمية التعليم العالي ليس هو الشخص الأنسب لقيادة جامعة، بالمثل إن قائد مركز الأبحاث الذي لا يرغب حقًا في التفاني للخروج بنتائج بحثية تلبي احتياجات الواقع هو ليس بالضرورة القائد المناسب للمعهد، يتعلق الأمر هنا بمجموعة القيم الجوهرية التي تدعم سياقًا عمليًا يعتمد على عقول وأفكار نخبة من العاملين في العلوم بمختلف فروعها، وهي تستوجب استيفاء أركان القيادة الإدارية في العموم، مثل تعزيز الثقافة الإيجابية من أعلى التقسيمات الإدارية إلى أسفل، وتعزيز روح التعاون، وبناء الثقة المهنية وأعلى درجات أخلاقيات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وخلق مساحة التواصل للجميع، وبالإضافة لهذه الركائز الأساسية للقيادة هناك جوانب خاصة ببيئات العمل البحثي والابتكاري، فنجد أن جزءًا كبيرًا من العمل لا يتطلب إلى القيادة الروتينية، فمجالات العلوم هي من أكثر الميادين ديناميكية، لذلك فإن التوجهات الأساسية والأولويات تتماشى بديهيًا مع الحراك العلمي الدولي، وعلى القائد أن يظهر المنهجية الرشيقة كمهارة قيادية في الاستجابة بكفاءة للاحتياجات المتغيرة، والحفاظ على الأداء المتقدم في بيئات التطوير السريعة، والمساهمة بشكل إيجابي في المشهد الأوسع للعلوم والتكنولوجيا.

إن العمل في المختبرات العلمية، والمراكز البحثية والتطويرية يختلف بشكل جذري عن العمل المكتبي، أو ريادة الأعمال، فكل خطوة تؤثر على بروتوكول العمل، وبالتالي تؤثر على النتائج، وعلى المشهد برمته، ولا يمكن إهمال أدنى تحد ينشأ فيها، بدءاً بعطل صغير في الأنظمة الإلكترونية، أو تغير درجة حرارة الأجهزة والأوساط التي تتم فيها التجارب، وانتهاءً بتحديات المنافسات داخل فرق العمل، فطبيعة العمل في المبادرات البحثية، والتكنولوجية تتطلب الاستفادة من المعارف والمهارات الجماعية، فهي ليست وظائف معزولة يمكن أن يُسند إليها المدير مهام منفصلة، ثم يتم جمع أجزاء العمل، إنما هي نتاج عمل ذهني وفكري، ولذلك فإن القيادة العلمية تتطلب القدرة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، والتحلي بالحزم في تفكيك المنافسات، وسد الانقسامات، وتعزيز أوجه التآزر بمهارة، وتنمية بيئة التعاون المفتوح وتكامل الخبرات، وتحقيق الاتساق في دمج المواهب العلمية المتنوعة والمتعددة، سعيًا وراء خلق نتائج متميزة وشاهدة على قوة الجهد الموحد، من منطلق الحكمة التي تقول: «لكي تصبح ذلك القائد العظيم الذي لا يُنسى، عليك أن تأخذ القطع التي بحوزتك ثم تصنع منها الحياة التي تطمح إليها، بدلاً من البحث عن القطع التي تناسب قالبًا معينًا».

القيادة العلمية تشبه كثيرًا مقاربة الفنان والحافلة، فهي في المجمل قصة إرادة وحلم، ولا بد لهذه القصة أن تحدث التأثير العميق في فريق العمل، فإذا توقفت القصة عن التأثير يفقد الفريق الدافع للعمل، وكذلك على هذه القصة أن تمتلك مقومات التحقق، وإذا توقفت القصة عن تحريك الفريق يتعذر الانتقال من الفكرة إلى الواقع، وبذلك يفقد القائد النتائج، ويفقد متابعيه، من أجل ذلك يجب النظر إلى القيادة العلمية بعيدًا عن محدودية أغلب النماذج الأكاديمية، وعن النظرة التقليدية النمطية للقيادة التي تدور حول الإدارة الدقيقة والتفصيلية، فالقائد العلمي لا يحتاج؛ لأن يكون عالمًا عظيمًا حتى يقود مركزًا بحثيًا، أو لجنة علمية استشارية، هو يحتاج لثلاثة مفاهيم وهي الرؤية، والاستراتيجية، والالتزام، وتعززها قوة إلهام الآخرين لتبني الرؤية وتحقيقها، بدلاً من إعطاء الأوامر، والتوجيه المباشر، مع السعي الدؤوب لخلق الفهم المشترك، وتجنب الوقوع في فخ الغرور بعد نيل الإنجازات العلمية الباهرة، والتظاهر بالكمال، بل الإدراك بوعي كامل أن الطريق إلى الإنجاز ينطوي على التعلم من الأخطاء السابقة دون إلقاء اللوم، وإنما بالالتزام نحو الهدف باعتدال، وذلك بالاحتفاء بقصص النجاح، وخلق مساحة لمناقشة الإخفاقات، وتجديد بناء الثقة، والشغف، والعزيمة للتعلم، والتطور مدى الحياة، إن جوهر القيادة العلمية وهو إدراك قُدسيَّة العلم، وأهمية المعرفة، والعمل كمحفز لزيادة رصيد المعرفة والابتكار، وسد الفجوة القيادية التي خلفتها تعقيدات المشهد التكنولوجي المتطور بإرساء صفات وسمات تؤسس للأجيال المستقبلية، وتثمن الخبرة، والقدرة على التكيف، والتواضع، والقيادة الأخلاقية.