القوانين الإجرائيّة وفضاء الإبداع

04 مارس 2024
04 مارس 2024

نعيش اليوم في فترة متسارعة ومتداخلة بشكل كبير جدّا، ولم نعد نعيش ذلك العالم المنصهر في ذاته، والمنزوي عن غيره، لهذا أصبح الفضاء اليوم واسعا فكرا، لكنّه أحيانا ضيّق إجرائيّا، حيث إنّ الدّولة القطريّة قد تتحوّل بذاتها إجرائيّا إلى سجن مصغر، إذا ساد فيها الاستبداد، وانتشر فيها الإقصاء، فمع عولمة الفضاء الواسع، إلّا أنّه يضيق في حدود جغرافيّة معيّنة ينتمي إليها.

لهذا إذا استوعبت القوانين الإجرائيّة، في الدّستور أو النّظام العام، أو فيما يندرج عنها من لوائح وتنظيمات؛ هذا التّغيّر المتسارع في العالم، واستوعبته لصالحها، حينها تستطيع استثمار الطّاقات الإبداعيّة الموجودة في داخلها، كانت كتابيّة أو فنيّة أو مواهبيّة، أمّا إذا عاشت عنصر التّوجس المبالغ فيه، والأبويّة المفرطة، فالعالم سيتقدّمها، أمّا هي فستظلّ في نقطة متأخرة، ستدرك يوما أنّ الواقع تجاوزها.

فالكاتب المبدع مثلا بفكره متجاوز لفضائه الضّيّق إلى الفضاء الواسع، وينظر إلى عالمه من سعة ذاته لا من ضيق هويّته، وهذا لا يعنيّ أنّه متنكر لانتماءاته، غير مبال بنظام وطنه الّذي استقر عليه، لكنّه في الوقت ذاته لابدّ لهذا الأنظمة أن تكون موسعة لفضاء حريّة الإبداع، ومتعايشة مع الواقع المعاش، ومقتربة من ذات الإنسان، ومن فردانيّته الواسعة، وألّا تغرق ذاتها في الخوف المبالغ فيه، وفي الانتماءات الضّيّقة، بحيث تتحوّل من خصوصيّات يحافظ عليها، إلى حاكميّة تحدّ من إبداع الآخر المختلف عنها، وتقصيه عن سعة الوطن إلى ضيق الانتماء أيّا كان لونه وطبيعته.

فالإبداع يدور بين دائرتين وفق الظّرفيّة الرّاهنة، يدور بين دائرة المبادئ الجامعة المطلقة، المنفصلة بذاتها - قدر الإمكان - عن المصالح الانتمائيّة، والمنافع الماديّة، والرّغبات المنصبيّة، ليكون حرّا طليقا في ذات الكلمة والنّقد والتّفلسف، أو التّعبير والرّواية والشّعر، وفي الإبداع الكونيّ في اكتشاف ما في الوجود، أو في محاكاته ابتكارا أو رسما أو نقشا أو تصميما، أو تقريب صورة ما ينتجه الإنسان كتابة أو شعرا أو رواية، أو ما يتخيّله واقعا أو مستقبلا، أو ما يعيد صورته تأريخا أو ماضيا، من سينما أو غناء أو مسرح، كان بذاته، أو باستخدام التّقنيّات المعاصرة كالذّكاء الاصطناعيّ.

وبين دائرة الإجراءات المنظمة كلوائح تشريعيّة، فهذه إن صدرت دون دراسة وتأني، غير مستوعبة للظّرفيّة الرّاهنة، أو منطلقة من مصالح ضيّقة، أو من رؤية خائفة من سعة فضاء الإبداع والحريّة شموليّا أو في بعض أجزائها وأنواعها، هنا تكون العلاقة غير متوازنة، وسير السّفينة ليس مستقرا، ممّا يحدث شيئا من التّضارب وعدم الاستقرار مستقبلا.

لهذا لابدّ أن تتواءم القوانين الإجرائيّة مع فضاء الظّرفيّة الرّاهنة، وبما أنّها مرتبطة بالكلّ فينبغي أن تكون متاحة للكلّ تداولا ونقدا، على الأقل في المجال البحثيّ والنّقديّ، ومن أكبر شريحة مفكرة وناقدة من خارج صندوق سنّ القوانين والأنظمة ومراجعتها، حتّى تكون الرّؤية مكتملة من حيث دراستها من أكثر من زاوية، وتكون متلائمة مع الواقع، ومستوعبة للذّات والمستقبل.

على أنّ الحفاظ على سعة دائرة الإبداع، وتعدّد مجالات ذلك بما يرتبط من تنوّع مجالات الإبداع الفرديّ، وتنوّع مواهبه وقدراته في الوقت ذاته، واستثمار ذلك في مصلحة الذّات والوطن، وتوفير المناخ والدّعم لذلك؛ هذا يؤدّي تلقائيّا إلى قوّة الدّولة المركزيّة أو القطريّة، فقوّة الدّولة المركزيّة يتمثل في مدى قدرتها في استيعاب كلّ فرد فيها، واستثمار طاقاته الإبداعيّة والمواهبيّة، كان موافقا أو مخالفا، مؤيّدا أو ناقدا، أيّا كان توجهه وفكره، وأيا كانت انتماءاته الهويّاتيّة، فالإبداع يتجاوز ذلك كلّه، إلى فضاء الوطن الّذي يستوعبهم جميعا، وفي هذا قوّة لهذا الوطن أيّا كانت جغرافيّته، واختلاف هويّاته، وتعدّد مصادره الماديّة.

هناك شيئان رئيسان يهدّدان الأوطان واستقرارها، ويؤدّيان إلى ضعف الدّولة المركزيّة، هما عدم المساواة وتحقّق العدالة، والثّانيّ توسع الفقر والبطالة والطّبقيّة، فكلّما تجاوزت الدّولة المركزيّة أو القطريّة هذين الدّائين، فكانا همّا يتعاون الجميع في تقليصه وتضييق دائرته، من جميع الجهات، ومن جميع أفراد المجتمع، وكانت التّشريعات وما يتبعها من جهات رقابيّة وتنفيذيّة وأمنيّة، همّها بدرجة أولى تحقّق العدل والمساواة، ثمّ تحقّق الاكتفاء الذّاتيّ والمعيشيّ، ومواجهة الفساد المؤدّي إلى خلخلة ذلك؛ هذا يؤدّي تلقائيّا إلى تعميق الولاء للدّولة القطريّة، أيّا كان تشكلها السّياسيّ، وبالتّالي قوّتها داخليّا، فإن كانت ذات قوّة داخليّة، فلا يخيفها الخارج؛ لأنّ قوّتها في ذاتها، ومن كانت كذلك هابها من في خارجها.

وسعة فضاء دائرة الإبداع تساهم في مواجهة هذين الدّائين، من حيث بلورة نظريّة مصاديق المساواة والعدالة، وبلورتها إلى منظومات إجرائيّة يحارب بها الفساد الإداريّ والماديّ الذي يوجد حالة من توسع دائرة «البطالة» والطّبقيّة في المجتمع، كما أنّ سعة فضاء دائرة الإبداع أيضا يؤدّي إلى توفير إبداعات استثماريّة تساهم في دوران المال من جهة، وفي توفير فرص عملية وظيفيّة من جهة ثانية، وفي توسيع دائرة الشّركات الصّغيرة والمتوسطة، وهذا كليّا يؤدّي على المدى البعيد في استقرار الدّولة القطريّة اقتصاديّا من خلال استثمار التّعدّديّة الإبداعيّة والمواهبيّة فيه، وإذا ما تقوّت اقتصاديّا؛ تتقوّى سياسيّا وأمنيّا بشكل طبيعيّ، وهذا لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال وجود فضاء حرّ يجد الكّل فيه مساحته للتّحرك الإبداعيّ بشكل آمن وواسع وعميق معا.

بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»