القمة المصرية العمانية ووضع النقاط على الحروف!
بالرغم من أن العلاقات العمانية المصرية علاقات قديمة ومتجذرة، إذ أنها تعود إلى ما قبل التاريخ، إلا أنه يمكن القول دون أية مبالغة أن القمة التي احتضنتها مسقط يومي 27 و28 يونيو الماضي بين جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وأخيه فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية كانت قمة على جانب كبير من الأهمية والتأثير على مستويات مختلفة، سواء بحكم مستواها الرفيع، أو بحكم ما تم خلالها وما سيترتب عليها من نتائج بدأت بعض مؤشراتها في الظهور بشكل أو بآخر.
وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها أولا: تتمثل الأهمية الكبيرة للقمة وما صاحبها من لقاءات بين الرئيس السيسي وسمو السيد فهد بن محمود نائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء وكذلك بين الرئيس السيسي وعدد من أصحاب وصاحبات الأعمال العمانيين في أنها فتحت الطريق لحدوث نقلة نوعية في العلاقات بين الدولتين الشقيقتين، وذلك بتعميق وتطوير التعاون بين الدولتين في مختلف المجالات وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والاستثماري، وهو ما عبر عنه البيان الختامي للزيارة بوضوح شديد.
ومع الوضع في الاعتبار ما تم التوقيع عليه من اتفاقيات ومذكرات تفاهم وبرامج تنفيذية خلال الزيارة فإن الإشارة إلى بحث إنشاء صندوق استثمار مشترك بين سلطنة عمان ومصر يدفع بدوره فرص التعاون الاقتصادي والاستثماري إلى آفاق أرحب خاصة وأن الدولتين، لديهما اهتمامات خاصة وفرص واسعة للعمل معًا في إفريقيا، بحكم علاقات كل منهما بالقارة السمراء، فضلا عن مجالات العمل الاقتصادي والتجاري بين الدولتين وهو مجال لا يزال قادرًا على تحقيق الكثير من التطور الكمي والنوعي لصالح الدولتين الشقيقتين بحكم الإمكانيات الكبيرة لكل منهما وفوائد التكامل الأوسع والأعمق بين مختلف القطاعات الاقتصادية في البلدين الآن وفي المستقبل كذلك. ومن جانب آخر، فإنه يمكن القول بدون أية مبالغة أن محادثات القمة في مسقط وضعت، أو بالأحرى أوضحت كثيرًا من النقاط على حروف العلاقات الممتدة والعميقة بين الدولتين الشقيقتين، وبما يوفر ليس فقط إدراكًا أعمق وأوضح لسياسات ومواقف وعلاقات الدولتين الشقيقتين ورؤاهما على مختلف المستويات، وعلى الصعيد الثنائي والمتعدد الأطراف كذلك، ولكن أيضا بما يوفر إطارًا سياسيًا فاعلًا ومدعمًا بالإرادة السياسية على مستوى القمة في الدولتين الشقيقتين للسير بالعلاقات والتعاون والتكامل المنشود إلى الآفاق الاستراتيجية الواسعة والعميقة وفي كل المجالات دون استثناء. صحيح أن السلطنة ومصر ارتبطتا على مدى العقود الماضية بعلاقات طيبة ووثيقة في الكثير من المجالات. وإذا كانت العلاقات الوثيقة والمتميزة على مستوى القمة خلال العقود الماضية لم تنزل بشكل كاف إلى المستويات ونطاقات العلاقات الأخرى، فإن تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مقاليد الحكم في عام 2020 خلفا للسلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وتجاوز مصر بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي للكثير من مشكلات ومخاطر العقد الماضي، وتطلعها إلى إعادة بناء علاقاتها واستئناف دورها الإيجابي مع كل الأشقاء ولصالح الأمن والاستقرار والازدهار لكل الدول والشعوب العربية والمنطقة ككل، هو ما أعطى في الواقع المزيد من الأهمية لتبادل وجهات النظر وبشفافية كاملة بين الزعيمين، وجعل من الزيارة الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسي لسلطنة عمان، حدثًا مهمًا ومؤثرًا بحكم ما سيترتب عليها من نتائج مباشرة وغير مباشرة تحصن العلاقات الثنائية وتدفع بها إلى آفاق أرحب على مختلف المستويات.
ثانيا: إن مما يزيد من أهمية ودلالة الزيارة ومحادثات القمة إنها تمثل التقاءً وتلاقيًا بين التحركين المصري والعماني على الصعيدين العربي والإقليمي من أجل العمل على تجاوز الخلافات العربية، والامتدادات الإقليمية لها والسعي إلى بناء رؤية عربية مشتركة، واضحة المعالم والأبعاد لخدمة وحماية الأمن القومي العربي، على المستويين الفردي والجماعي، والتهيئة لحل أكثر من خلاف عربي ووضع نهاية لحروب ومواجهات بات من المهم والضروري إنهائها بأسرع وقت ممكن، حفاظا على المقدرات والمصالح العربية، واستعدادًا لتعامل عربي جماعي فعال مع التطورات الحالية والقادمة والتي فرضت وتفرض الكثير على دول وشعوب المنطقة العربية بوجه خاص. ومع تقدير الظروف الخاصة بكل دولة عربية ورؤيتها لمصالحها الوطنية وخياراتها في هذا المجال، فإنه ليس من المبالغة في شيء القول إن مساحة الالتقاء والتلاقي بين السياسات والمواقف والرؤى المصرية والعمانية، في هذه المرحلة، هي مساحة كبيرة جدًا، وأكثر مما يتصوره كثيرون، ومن شأن هذا التوافق الكبير والعميق أيضًا أن يزيد ويعزز من التنسيق والعمل بين الدبلوماسية العمانية والمصرية لتحقيق الأهداف المنشودة ولتهيئة المجال لوقف القتال بشكل دائم في اليمن والتوصل إلى حل عبر الأطراف اليمنية وبمشاركتها جميعها، وكذلك التعاون لإخراج ليبيا الشقيقة من كبوتها وعثراتها التي تعيشها منذ أكثر من عقد، والعمل معًا لدفع القضية الفلسطينية على طريق الحل السلمي الشامل والمستند إلى حل الدولتين، وكذلك الإسهام بأكبر قدر ممكن لدعم محاولات العراق ولبنان وسوريا والسودان استعادة قدراتها وتجاوز تحدياتها المرئية وغير المرئية، فضلا عن العمل من أجل إعادة تنشيط العمل العربي المشترك وإعطاء دفعة للتعاون الاقتصادي والاستثماري العربي لصالح كل الدول والشعوب العربية وبالطبع الاستمرار في مكافحة الإرهاب بأشكاله المختلفة. وإذا كنا في غير حاجة إلى الإشارة تفصيليا إلى مواقف السلطنة ومصر حيال كل تلك القضايا في الظروف الراهنة، فإنه من المؤكد أن مساحة التلاقي والتوافق بين البلدين الشقيقين هي كبيرة وعميقة والقواسم المشتركة بينهما تفوق في الواقع وبكثير أحيانا مما هو موجود بين القاهرة وعواصم عربية عدة.
ومن هنا تحديدًا، ومع الوضع في الاعتبار السياسات العمانية وما يحكمها من مبادئ واعتبارات، وما تتسم به من شفافية وصراحة، فإن محادثات مسقط، أوضحت الكثير من النقاط وعلى نحو سيعود بالخير على الدولتين الشقيقتين وعلى مختلف الدول والشعوب العربية، خاصة وأن السلام والأمن والاستقرار والازدهار هي أولويات مشتركة للسياسة والدبلوماسية المصرية والعمانية، مع التزام قوي وصريح وواضح باحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحل الخلافات بالحوار والطرق السلمية ووفقًا لمبادئ الشرعية الدولية. وليس مصادفة أن يؤكد البيان الختامي للقمة على ذلك بشكل بالغ الوضوح. كما أن حجم وطبيعة الاتصالات التي قامت بها كل من مصر وسلطنة عمان في الأسابيع الأخيرة تؤكد ذلك أيضًا.
ثالثًا: إنه في الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة لرياح وتحديات عديدة تفرض بلورة الموقف والرؤية الجماعية العربية، بأكبر قدر من التوافق بين كل الأشقاء بقدر الإمكان، خاصة في ظل الآثار الاقتصادية لكورونا ولانعكاسات التضخم العالمي وللحرب في أوكرانيا ولتغيير الناتو لاستراتيجيته وقراره بالتوسع وتعزيز جبهته الشرقية، وكذلك الزيارة القادمة للرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة ولقاء جدة الذي سيجمعه مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، لا يمكن إلا أن تكون جميعها موضع اهتمام وتشاور وتبادل لوجهات النظر بين الأشقاء، خاصة على مستوى القمة، ومع إدراك أهمية زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة ولقائه مع قادة تسع دول عربية، ومع الأمل في أن تتمخض عن «نتائج إيجابية» على المستويات المختلفة، إلا أنه لا بد من الاعتراف بأن الكثير مما راج في الآونة الأخيرة حول الزيارة وما قد تشهده أو تخرج به من نتائج يظل في الجانب الأكبر منه إما افتراضات، أو استدعاء لأفكار سابقة، أو ترديد لصيغ تطرحها جهات محددة للترويج لمصالحها أو للتشكيك في الموقف العربي العام بشكل يثير المزيد من الخلافات، أو على الأقل الشكوك بين الأشقاء، في وقت نحتاج فيه جميعا إلى استعادة الثقة وتعزيز التقارب والسير معًا لتحقيق ما يخدم المصلحة العربية على المستويين الفردي والجماعي. وإذا كان من المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة عظمى عالمية، لها مصالحها على مستوى المنطقة وعلى المستوى العالمي، وإن بايدن سيزور إسرائيل قبل لقاء جدة، وأنه لم يكن مصادفة أن يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي ليبيد ما قال إن بايدن أخبره بشأن إسرائيل وأهميتها والحاجة لوجودها، إلا أن الدول العربية يتوفر لديها أوراق وإمكانيات يمكن من خلالها أن تحدد ما تراه مناسبا لها، وإذا كان من المهم بالتأكيد تبادل وجهات النظر مع القوة العظمى الأولى في عالم اليوم، فإنه من المؤكد أن القادة العرب قادرون على صياغة الموقف العربي بما يعود بالنفع على الدول العربية وبما يخدم هدف السعي إلى تحقيق السلام والأمن والاستقرار وحل الخلافات بالطرق السلمية، بعيدا عن تسويق سيناريوهات الحرب الإقليمية التي لا يريدها أحد في الواقع ولكن يتم تسويقها لأغراض تكتيكية معروفة خاصة على صعيد العلاقات الإسرائيلية الأمريكية وربما تطلعات إسرائيل في المنطقة. على أية حال فإنه من المؤكد أن هناك رغبة عربية أمريكية للحفاظ على المصالح المشتركة والمتبادلة وإن كانت إسرائيل ستظل تسعى للصيد في الماء العكر الآن وغدا ويظل الأمر في النهاية مرهونا بالجانب العربي لإيضاح المزيد من النقاط على الحروف.
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري
