الفن والسياسة
دعوة الحداثة في الفن التي رفعت شعار «الفن من أجل الفن» هي دعوة لم تفهم حقيقة الفن، بل لم تفهم صلة الفن بالتاريخ وبالوجود وبالحقيقة نفسها؛ وهي دعوة قد تصورت أن الفن يمكن اختزاله في مفهوم «الجميل»؛ وبذلك فإنها عزلت مفهوم «الفن» نفسه عن دلالته الإنسانية كما تتجلى في السياق التاريخي والاجتماعي. ولم يكن هذا حال الفن العظيم يومًا ما في مختلف أنواعه. الفن في عالم القدماء كان يعبر عن عالمهم الديني والأسطوري والاجتماعي، بل إن فلاسفتهم ومفكريهم قد أدركوا الصلة الوثيقة بين الفن والسياسة ذاتها: فها هو أفلاطون يدعو في محاورة «الجمهورية» إلى استبعاد الدولة للمقامات الموسيقية التي تتسم بالميوعة والإبقاء على المقامات التي تتميز بالروح الحماسية والعسكرية؛ وذلك كي لا تقع أثينا تحت رحمة أعدائها الإسبرطيين، على حد تعبيره. كما أن الرومان قد اتخذوا موقفًا مشابهًا؛ إذ كانوا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم إمبراطورية عسكرية؛ ولهذا شاع عندهم الاعتماد على الآلات النحاسية التي تبعث روح الحماسة في النفوس. وعلى الرغم من أننا لا نوافق على اختزال قيمة الموسيقى في التعبير عن الروح الحماسية (أو حتى الأخلاقية) على نحو ما كانت لدى القدماء، فإن هذا الطابع في فهم الموسيقى يبقى معبرًا عن ارتباط الفن بالسياسة، وهو طابع قد تواصل عبر العصور في الأغاني الوطنية وفي الشعر السياسي، وفي فن التصوير، وفي فن المسرح، ثم في فن السينما.
في الفكر المعاصر ركز الماركسيون وأغلب من تأثر بهم من أتباع المدرسة النقدية على علاقة الفن بالسياسة، وقدموا إسهامات مهمة في هذا الصدد. ولكنهم غالبًا لم يتحرروا من الأيديولوجية الماركسية الدوجماطيقية في تناول صلة الفن بالتاريخ والمجتمع؛ ولهذا فإنهم وقعوا في خطأ من نوع آخر حينما اختزلوا قيمة الفن والجمال في التعبير عن فكرة الصراع الطبقي وطموحات الطبقة العاملة ونقد الفن الرأسمالي؛ فكل طبقة عندهم تصنع فنها الخاص الذي يعبر عن مصالحها الطبقية. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا احتفى ماركس نفسه بفنانين وأدباء من الدرجة الثانية لمجرد أنهم كانوا يعبرون في أعمالهم عن هذا التصور الأيديولوجي، أي عن ضرورات العمل السياسي والنضال من أجل الحرية. ولكن لأن ماركس نفسه كان عقلية فذة، فقد كان يراجع نفسه ويتشكك في موقفه، حتى إنه قد لاحظ في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» أن الفن يمكن أن يتجاوز الطابع الاجتماعي الطبقي؛ ولهذا رأى أن هناك معضلات لا يمكن تفسيرها من داخل تصوره الأيديولوجي؛ إذ لا يمكن على أساس من هذا التصور تفسير السبب في أن أعمال القدماء لا تزال تقدم لنا متعة فنية وجمالية.
كذلك فإن ما يُسمى بفن ما بعد الحداثة لم يؤد إلى تغيير حقيقي فيما يتعلق بصلة الفن والجمال بالسياسة وبأساليب عيش الناس. اقترنت نشأة هذا الفن بصعود الطبقة البورجوازية التي احتقرها سارتر ووصفها بأقذع الألفاظ في سياق آخر غير هذا السياق الذي أتحدث فيه. ويمكن تبسيط موقف المنتمين إلى هذه الطبقة بالقول بأنهم أشبه بالطبقة المخملية التي اغتنت من السياسات والنظم الرأسمالية الحديثة في سائر صورها من دون أن يكون لهم رصيد من الثقافة والفكر؛ ولذلك راحوا يتعاملون مع الفن ذاته باعتباره سلعة يقتنونها، أو على الأقل يتباهون بها وهم جالسون على مقاعدهم الوثيرة المخملية في حالة من الانعزال عن دنيا الناس، وعن الفن الذي يعبر عن هذه الدنيا، وعن الفنان الذي طالما عانى ليعبر عن هذه الحياة. وأنا لا أتحدث هنا من خلال أي منظور ماركسي أو أيديولوجي، وإنما أتحدث فقط من خلال منظور وجودي، أعني من خلال منظور يتعلق بحقيقة الفن وبالوجود وبالحياة ذاتها.
وعلى الرغم من أننا لا نوافق على الكثير من آراء هربرت ماركوزه Marcuse التابع لمدرسة فرانكفورت المتأثرة بأصول ماركسية في تفسير صلة الفن بالسياسة؛ فإنه قد استطاع التحرر إلى حد كبير من هذه الأيديولوجية، بل من الأيديولوجية الرأسمالية نفسها، باعتبار أن كلًّا منهما تسعى إلى تدجين الفن وتطويعه والهيمنة عليه في خدمة سياسة استبدادية من خلال التحكم التكنولوجي؛ لأن الفن يعبر عن السياسة بشكل مختلف، أي: من خلال روحه الحرة الطليقة التي تعبر من خلال الشكل الفني عن استقلالية الفن وقدرته على رفض الواقع والتسامي به. وربما يكون موقف ماركوزه هذا نتاجًا لتأثره بفرويد وبفلسفة هيدجر أيضًا، وهذا موضوع متخصص يطول شرحه، قد تناولته بالتفصيل منذ ربع قرن في دراسة منشورة بعنوان «البعد الجمالي عند ماركوزه»؛ ومن ثم فليس هنا مجاله.
الفن الراهن في عالمنا اليوم يحاول إعادة الاعتبار لقيمة الفن حينما يربط بين الجمال وبين السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الناس، بحيث يجد الناس أن أشكال الجمال في الأعمال الفنية تعبر عن حياتهم وتخدم أساليب معيشتهم وتزين جدران منازلهم، من خلال أبنية معمارية تلبي احتياجاتهم المجتمعية والخدمية بحيث تتناسق فنيًّا وجماليًّا مع أساليب عيشهم وتراثهم، سواء كانت تتمثل في أبنية سكنية أو مدارس أو دور عبادة. ولا غرابة في أن هذا قد أصبح من المعايير التي تعتمدها الجوائز الكبرى في فن المعمار؛ لأن هذه المعايير لا تجور أبدًا على المعيار الجمالي الذي ينبغي أن يكون هو المعيار الأول في الحكم على قيمة أي عمل فني، ولكن هذا المعيار نفسه سوف يفقد قيمته، ما لم يكن مضمون التعبير الجمالي مرتبطًا أيضًا بحياة الناس وأساليب عيشهم وبهويتهم.
