الفن والتاريخ

16 أبريل 2024
16 أبريل 2024

الصلة بين الفن والتاريخ صلة وثيقة، ولكنها شائكة ومعقدة: فطالما تأمل الفن أحداث التاريخ وشخصياته المؤثرة في مساره، وطالما وثَّق التاريخ أعمال الفن وتطور صناعاته وأشكاله عبر التاريخ. وعلى هذا يمكننا القول إن وقائع التاريخ وأحداثه هي موضوع مشترك بين الفن والتاريخ. ولكن هذه الصلة أعقد كثيرًا من ذلك؛ لأن هذه الصلة تتبدد حينما ننظر إلى كلٍ منهما من حيث نهجيهما في تناول هذا الموضوع المشترك: فالفن يهتم دائمًا بالمعنى الكلي الذي توحي به الأحداث الجزئية؛ بينما التاريخ يهتم دائمًا بالوقائع والأحداث الجزئية ذاتها، أعني: أنه يهتم بهذا الحدث الذي وقع في التاريخ الفلاني، وبتلك الشخصية التي كانت مؤثرة. ولا شك في أن البحث التاريخي في مثل هذه الحالات يتم وفقًا لمناهج وأصول البحث التاريخي، ومع ذلك فإن البحث هنا يظل بحثًا في الجزئي، بينما يسعى الفن إلى رؤية كلية.

لقد فطن أرسطو مبكرًا إلى هذا الاختلاف، فقال قولته الشهيرة: «إن الشعر أوفر من التاريخ حظًا من الفلسفة؛ لأن الفلسفة تبحث عن الكلي، بينما التاريخ يبحث عن الجزئي». وهذه العبارة تحتاج إلى تحليل: ينبغي أن نلاحظ أولًا أن «الشعر» هنا يعني الفن بوجه عام؛ لأن الشعر عند قدماء اليونان هو الفن الجامع (أي: الذي يجمع عند أدائه فنونًا أخرى: كالنص الشعري المسرحي، والتمثيل، والموسيقى والغناء). وينبغي أن نلاحظ ثانيًا أن مناط مقارنة أرسطو هنا بين الشعر/أو الفن وبين التاريخ هو الفلسفة، أي الرؤية الفلسفية باعتبارها رؤية كلية: فالفن/الشعر يهتم بما هو فلسفي أو كلي، بينما التاريخ يهتم بما هو جزئي.

كيف نطبق ذلك على الفن الذي يتمثل وقائع التاريخ وأحداثه وشخصياته؟ كيف نطبق ذلك على ما نسميه «فن التصوير التاريخي» و«الرواية التاريخية» على سبيل المثال؟ ما الذي يميز الفن عن التاريخ حينما يتأمل الفن التاريخ نفسه؟ لنتأمل حالة «فن التصوير التاريخي»:

فن التصوير التاريخي Historical Painting هو فن قد ساد في عصر النهضة والعصر الحديث، وهو فن يهتم بتصوير الأحداث التاريخية الكبرى وشخصيات الملوك والأمراء عبر التاريخ. ولقد برع في هذا الفن معظم الفنانين عبر العصور، ومنهم فنانون معاصرون عظام، من أمثال سِلفادور دالي الذي صور في لوحته الشهيرة «جيرنيكا» وحشية الحرب النازية على قرية مسالمة من القرى الإسبانية، وهو معنى يتجاوز الواقعة التاريخية بتفاصيلها الجزئية إلى التعبير الكلي عن معنى «وحشية الحرب» بوجه عام. ولكن يظل أعظم أساتذة هذا الفن هما: رافائيل وكوريجيو اللذان ينتميان إلى عصر النهضة. فقد استطاع هؤلاء الأساتذة تصوير الروح الكلية للعقيدة المسيحية التي تتمثل في الإيمان بأن السعادة الحقيقية هي سعادة أخروية؛ وهذه الروح «الإسكاتولوجية» أو الأخروية هي المسؤولة عن روح السكينة التي تتجلى في الشخوص المسيحية المقدسة التي عكف هؤلاء الفنانون على تصويرها: فغالبًا ما نجد المسيح في هذه اللوحات طفلًا مع أمه العذراء، أو نجدهما معًا وقد حفتهما الملائكة، وقد تبدى في عيونهم وإيماءاتهم الجسدية حالة الإيمان والرضى التي تتعالى على أية سعادة عابرة.

يهتم التاريخ بتسجيل مواقف الحكام والشخصيات المؤثرة في صنع الأحداث، سواء أكانت أحداثًا كلية عامة أم أحداثًا جزئية عابرة. ينشغل التاريخ بتوثيق الأحداث وفقًا لمناهج البحث التاريخي. ومع ذلك، فإنه لا يبقى من التاريخ سوى تلك الشخصيات والأحداث التي كانت لها أهمية في تغيير مسار التاريخ، أو كانت لها دلالة إنسانية عامة تتجاوز الوقائع الجزئية التي تحدد إطارها الزماني والمكاني. ولذلك فإن اهتمام التاريخ بالحكام والأبطال عبر العصور (مثل: الإسكندر الأكبر، وكليوباترا، ومحمد علي، ونابليون، وهتلر، وموسوليني، إلخ)، هو اهتمام لا قيمة له إن لم ننظر إلى هؤلاء باعتبارهم نتاجًا لعصر ما أو لمرحلة تاريخية ما، أعني: إنه ينبغي تناولهم باعتبارهم جزءًا في سياق مرحلة تاريخية ما. وهذا هو في الحقيقة الفارق الجوهري بين التاريخ وفلسفة التاريخ: فالتاريخ يهتم بما هو جزئي، بينما فلسفة التاريخ تهتم بما هو كلي. ولذلك فإن المؤرخ الذي يتجاوز الأحداث الجزئية إلى فهم دلالتها الكلية في سياق عصرها، لا يكون مجرد مؤرخ، وإنما يكون أيضًا فيلسوفًا للتاريخ.

وعلى هذا النحو نفسه ينبغي أن نفهم رسالة الفن: فرسالة الفن ليست رسالة أخلاقية كما يُروَّج العوام لذلك عادةً، وإنما هي رسالة في فهم معنى أو دلالة إنسانية عامة كما تتجلى من خلال مواقف شخصيات وأحداث جزئية. وبعبارة أخرى يمكن القول بأن هذا هو الفارق بين التاريخ وتأمل التاريخ. وفي ضوء هذا ينبغي أن نتأمل لوحة بيكاسو التي يصور فيها فظاعة ووحشية الحرب النازية على قرية مسالمة من قرى إسبانيا؛ وينبغي أن نتأمل أعمال نجيب محفوظ الروائية التي يصور فيها من خلال أحداث وشخصيات جزئية الروح المصرية كما تتجلى في مرحلة تاريخية معينة؛ والأمثلة على ذلك يمكن أن تتعدد إلى ما نهاية.

وعلى هذا، يمكننا القول إن الفن يكون قادرًا على التعبير عن روح التاريخ وحقيقته أكثر من التاريخ نفسه. وبهذا المعنى يمكن القول أيضًا إن الفن يكون أقرب إلى فلسفة التاريخ من التاريخ نفسه. ولهذا فإن المؤرخين العظام هم أولئك الذين تجاوزوا التاريخ نفسه إلى تأمل دلالة وقائعه وأحداثه، تمامًا مثلما فعل ابن خلدون منذ البداية، باعتباره المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، وهو ما يتبدى بوضوح في مقدمة كتابه الشهير الذي يحمل عنوانًا طويلًا هو «كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»