الفلسفة وأخلاقيات التسامح
في مقالي السابق بعنوان «حاجتنا إلى الفلسفة» تحدثت عن أهمية الفلسفة وضرورتها بوجه عام، أما في هذا المقال فإني أخصص حديثي في جانب واحد من الفضائل التي ترتبط بالفلسفة ارتباطًا وثيقًا، وتعد أمارة عليها في الوقت ذاته؛ وهي فضيلة التسامح في سائر تجلياتها، سواء على المستوى السياسي أو الفكري أو الديني. وهذا ما سأحاول إلقاء الضوء عليه فيما يلي.
من البديهي التأكيد على أن مفهوم التسامح يتعارض بطبيعته مع مفاهيم أخرى من قبيل: الكراهية والتطرف، سواء في المواقف العقائدية أو السلوكية. ولعل أبسط الظواهر التي تتبدى فيها الصلة الوثيقة بين الفلسفة والتسامح، هي تلك الظواهر التي تتبدى في سلوك المرء ومواقفه؛ لأن الفيلسوف أو حتى مجرد المرء المحب للفلسفة والتفلسف، هو المرء الذي يكون قادرًا على تفهم الآخر وتقبل الاختلاف في المعتقد والرأي، بل إنه يتساءل دائمًا ويتشكك في آرائه الشخصية، ويكون على استعداد للتخلي عنها أو تعديلها. ولذلك فإن المرء الذي يفتقر إلى الفكر والثقافة غالبًا ما يتبنى آراء قطعية لا تقبل شكًا ولا جدلًا إزاء كل ما يَعرِض له في دنيا الحياة اليومية. مثل هذه الآراء يمكن أن نتوقعها من الشخص العادي الذي يفتقر إلى الثقافة ولا يكون له شأن بالفلسفة، ولكننا لا يمكن أن نقبلها من الشخص الدارس للفلسفة، ناهيك عن المشتغل بها. ولكن هذا هو ما يحدث أحيانًا للأسف؛ إذ نجد كثيرًا من المشتغلين بالفلسفة يتبنون مواقف متصلبة لا صلة لها بالفلسفة أو التفكير النقدي، وكأنهم من جملة العوام؛ بل تجدهم لا ينتجون شيئًا مذكورًا في الفلسفة، ويظهرون عداءً وحقدًا وغلًا إزاء القلة المتميزة، ويستعيضون عن عدم وجودهم في دنيا الفلسفة بالتواجد المتواصل على مواقع التواصل الاجتماعي. مثل هؤلاء الأشخاص لم تمس الفلسفة شعرة واحدة في جسدهم؛ وهم يصدق عليهم وصف هَيدجر للموجود المبتذل بأنه «الموجود في كل مكان دون أن يكون في أي مكان».
ولكن صلة الفلسفة بالتسامح هي مسألة أعقد من ذلك بكثير؛ إذ أنها تتبدى في ظواهر أخرى تتجاوز مسلك الأفراد إلى مسلك الدول والشعوب، ومنها ظاهرة التسامح الديني في مقابل الكراهية والتعصب الديني. وكم عانت البشرية عبر تاريخها الطويل من جرَّاء الكراهية والتعصب الديني، وكم عانت أوروبا نفسها في عصورها المظلمة من حروب دموية وتصفيات جسدية بالحرق والإعدام للفلاسفة وللعلماء بسبب هذا التعصب. ولكن مع استعادة الفلسفة في العصر الحديث لدورها الحقيقي بتحررها من الدين وإعلائها لقيمة العقل، أمكن لها تحرير أوروبا من هيمنة الديني على الدنيوي والتصدي لظاهرة التعصب والتطرف الديني. ويعد الفيلسوف الإنجليزي الشهير جون لوك من أوائل فلاسفة العصر الحديث الذين تبنوا الدعوة إلى التسامح، وذلك من خلال كتابه «رسالة في التسامح» الذي ظهر سنة 1689. والفكرة الأساسية في رسالته هي أن المعرفة الإنسانية نفسها تقتضي مفهوم التسامح بالضرورة؛ لأن هذه المعرفة ذاتها تظل معرفة نسبية، حتى إن كانت معرفة تتعلق بالنص الديني؛ لأنها تظل فهمًا نسبيًّا يقوم على التعددية والاختلاف؛ ومن ثم لا يحق للقساوسة وعلماء الدين عمومًا أن يحتكروا فهم الدين وتأويله؛ لأن الحقيقة المطلقة ليست ملكًا لأحد، وإنما هي ملك لله وحده. ولا شك في أن أوروبا قد قطعت شوطًا طويلًا منذ العصر الحديث في إعلاء مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والفردية والتحرر من سلطة الدين، ولكن هل اختفت بذلك ظواهر الصراع والكراهية والتعصب الديني من العالم؟ كلا. فما زال الغرب في عصرنا هذا يضمر كراهية للإسلام، ولم يستطع أن يتحرر تمامًا من التعصب الديني إزاء الآخر، خاصة إزاء من يدينون بالإسلام (ناهيك عن اضطهاد المسلمين في الصين والهند وبورما). وفي كتاب الأستاذ فخري صالح «كراهية الإسلام» توثيق بالتفصيل لأشكال هذه الكراهية كما تتبدى في كتابات المستشرقين المعاصرين من أمثال برنارد لويس وصمويل هنتجتون ونايبولNaipaul. والواقع أن هؤلاء جميعًا يروجون لفكرة الصراع بين الإسلام والغرب، ويصورون الإسلام باعتباره عدوًا للغرب الذي يقوم على أصول يهودية-مسيحية. وعلى الرغم من أن نايبول يعد كاتبًا في أدب الرحلات أكثر من كونه مفكرًا، وكتاباته تنضح بهذه الروح العدائية بشكل صريح، ومنها كتابه «بين المؤمنين: رحلة إسلامية»- على الرغم من ذلك، فقد حصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 2001 باعتباره «مؤرخ أقدار الإمبراطوريات بالمعنى الأخلاقي للكلمة» كما جاء في حيثيات منح الجائزة! وهو ما يدل بوضوح على تسييس هذه الجائزة العالمية: فقد راجت آراء هؤلاء المستشرقين الجدد (والكُتَّاب المنحازين لإسرائيل من أمثل توماس فريدمان) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جعلت السياسة توظف كتابات منحازة ضد الإسلام، دون تمييز بين الإسلام وبين جماعات إرهابية معينة تنسب نفسها إلى الإسلام. وعلى هذا فإني أرى أن هؤلاء المستشرقين الجدد ليسوا بفلاسفة، وإنما هم مجرد أدوات سياسية بجانب الآلة الإعلامية الغربية التي تستخدمها السياسة.
ولا سبيل لمواجهة ذلك العداء سوى من خلال الحوار الفلسفي القادر على تعرية هذه المواقف وبيان تهافتها الذي يكمن في التعميم والافتقار إلى المعرفة التي تستند إلى مصادر علمية موثوقة، على غرار الحوار الذي أقامه إدوارد سعيد مع هذه المواقف. كما أن للإعلام العربي دورا مهما في هذا الصدد؛ ولذلك ينبغي أن تكون للقنوات الإعلامية العربية نوافذ رصينة ناطقة بالإنجليزية على الأقل، على غرار قناة الجزيرة المحترفة، بدلًا من أن يظل الإعلام العربي مقصورًا على مخاطبة أهله فحسب.
