العلاقة بين النص والمصلحة

05 مايو 2021
05 مايو 2021

خضعت قضية المصلحة والنص في الفكر الإسلامي منذ قرون ، للكثير من النقاشات،حول حدود هذه المصلحة، وهل مصلحة معتبرة، أم مصلحة مرسلة الخ:

ومن العلماء الذين طرحوا مسألة المصلحة وفق بعض الأحاديث النبوية، وتقديمها على النص ، الإمام الحنبلي نجم الدين الطوفي، الذين ولد في قرية طوف في العراق عام (ت 716)هجري، كما ذكر ابن حجر في كتابه [الدرر الكامنة]، ويتهم الطوفي من بعض العلماء بأنه طرح تقديم المصلحة على النص، وقد تعرض في هذا إلى انتقادات شديدة وقاسية من بعض الفقهاء والباحثين وحملوا الكثير من النقد المغالي بسبب هذا الرأي، كما قال عنه معارضوه، بأنه قدم المصلحة على النص تجاوزاً للكثير من الآراء التي استقرت عليها العلوم الفقهية والأصولية ، ويقصد ناقدوه بالنص أنه عمم حتى على النصوص القطعية الثابتة، وليست الظنية التي تحتمل تعدد الإفهام ، ومن العلماء الذين انتقدوا الإمام الطوفي نقداً شديداً، الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ، في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية)، وكذلك غيرهم ممن أشاروا إلى هذا الرأي من بعض العلماء الذين ناقشوا رأيه في بعض الدراسات، واعتبروه متجاوزاً ما اتفق عليه إجماع الأمة في قضية ، عدم تجاوز النص القطعي، لكن بعض مما تفهم مع قاله الأمام الطوفي ، أنه لم يفّصل في هذا الرأي في تقديم المصلحة على النص ، أو التفريق بين النصوص القطعية والنصوص الظنية.

وهذا الأمر الذي طرحه الإمام نجم الدين الطوفي، والذي لاقى حوله الكثير من التداولات والنقاشات، منذ ستة قرون مضت، فلا يزال موضوع " النص والمصلحة"، من خلال كتابه الذي حمل عنوان (التعيين في شرح الأربعين) النووية، تحدث في هذا الكتاب، عن الحديث الشهير للرسول (صلى الله عليه وسلم) "لا ضرر ولا ضرار". وأضاف الطوفي في هذا الشرح الحديث وتحول إلى بحث أصولي في مسألة النص والمصلحة كما أشرنا.

إلا أن البعض يختلف مع هذا التهم التي وجهت له، ذلك أن الإمام الطوفي في شرحه للحديث ، لا يقصد النصوص القطعية ، بل الظنية منها ، لكن المآخذ على الطوفي من العديد من الباحثين الذين كتبوا في ما قاله عن المصلحة، أن لم يشرح الفروق بين الظنيات التي تقبل الاجتهاد، وبين القطعيات التي لم يقصدها في رؤيته تجاه المصلحة..

يقول الطوفي في كتابه "التعيين في شرح الأربعين"، بما يؤكد رأيه وفق ما قاله الذين وافقوه في هذا الشرح :" وأما النص فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين، فهو إما صريح في الحكم أو محتمل، فهي أربعة أقسام: فإن كان متواترًا صريحًا، فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملًا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعًا مطلقًا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطعية من كل جهة، بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه: منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادًا محتملًا فلا قطع، وكذا إذا كان متواترًا محتملًا أو آحادًا صريحًا لا احتمال في دلالته بوجه لفوات قطعيته من أحد طرفيه: إما متنه أو سنده". وهذا ما يؤكد أنه لم يتجاوز القطعيات.

ويذكر الدكتور مصطفى زيد في كتابه (المصلحة في الشريعة الإسلامية)، أن الإمام الطوفي عدّد تسعة عشر دليلاً من الشرع ، تؤيد رأيه في هذا المسألة فيقول الطوفي:"وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع. ثم هما أما يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فيها ونعمت ولا نزاع ... وإما خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات والتعطيل لهما".

لكن هذا الرأي تعرض للنقد الشديد، لما قاله الإمام الطوفي في هذا الشرح، ربما لأنه لم يوضح رؤيته في هذا التأصيل الأصولي في المصلحة والنص، وقد ناقش الكاتب والباحث المعروف فهمي هويدي، ما كتبه نجم الدين الطوفي في مسألة النص والمصلحة في كتابه (تزييف الوعي)، واعتبر ما قاله الطوفي تم استغلاله من البعض بهدف التحلل من النصوص ليست ظنية، وأصبح البعض من الباحثين والكتاب يرددون ما قاله الطوفي، وهم ممن لهم دوافع ليست سليمة تجاه ضوابط المصلحة، حيث يراد أن يتم التنازل عن ما هو معلوم بالضرورة ، خاصة القطعيات في الشريعة، من أجل ذريعة المصلحة ، وتقديمها على النص، ويرى الأستاذ فهمي هويدي أن هذا الرأي من قبل الإمام الطوفي هو الرأي الوحيد من بين إجماع الأمة التي لا ترى تقديم المصلحة على النصوص القطعية، والذي لاقى اهتماماً كبيراً من بعض من ليس لهم تخصص في مجال الفقه وعلم الأصول، ويقول الأستاذ هويدي":لا نستطيع أن نكتم استغرابنا إزاء حفاوة بعض مثقفينا - من غير أهل الفقه - بموقف نجم الدين الطوفي، الذي شذ برأي لم يقل به أحد من قبل ومن بعد، فضلًا عن مزالق إهدار الشريعة التي يضعنا على حافتها. ذلك أن مثل هذه الآراء الشاذة تلقى هوى عند هؤلاء، من حيث إنها تمثل في حقيقة الأمر انخلاعًا من الالتزام بالشريعة، بينما هم يتلقفونها بترحاب وحماس، ويبالغون في تقديمها، حتى يصورونها نقطًا مضيئة في سجل الفكر الإسلامي، وعلامة من علامات التحرر والاستنارة والتقدم".

لكن الكاتب فهمي هويدي، رأى بعد قراءة فاحصة لرؤية نجم الدين الطوفي، أن هناك عدم إدراك البعض بصورة دقيقة لما قاله الطوفي في شرحه لحديث "لا ضرر لا ضرار"، وهو ما ناقشه في كتابه (حتى لا تكون فتنة)، ورأى أن الطوفي فرّق في مسألة المصلحة بحسب الحديث( لا ضرر ولا ضرار)، بين العبادات التي لا تقبل الاجتهاد وبين المعاملات والعادات، والمسائل التي يدخل فيها العقل، وما يدخل في مجال المنافع والمقاصد ويقول :" المعول عليه فيها - عند الطوفي - هو المصلحة، أي جلب النفع ورفع الضرر. فإذا لم يكن هناك حكم شرعي في شأنها جرى الحكم بما يحقق المصلحة. وإذا كان هناك حكم يحقق المصالح التي تدركها عقولنا نفذنا النص. وإذا كان حكم نص الشارع أو الإجماع لا يتفق والمصلحة التي تدركها عقولنا، ولم يكن الجمع بينهما، فالمعول عليه هو المصلحة.

وفي ذلك قال ما نصه: وإن تعذر الجمع بينهما، قدمت المصلحة على غيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (( لا ضرر ولا ضرار )). وهو خاص في نفي الضرر المستلزم في رعاية المصلحة فيجب تقديمه". ومن الباحثين الذين ناقشوا ما قاله الإمام الطوفي، د/ فهد بن ناصر العجلان في كتابه (معركة النص)، فيقول في هذه المسالة مدافعاّ عن الطوفي فيما يراه :" أن الطوفي لم يمثل للمصلحة التي تقدَّم على النص، وهو ما يؤكد أنه لا يقصد المصلحة العقلية المحضة التي يقصدها أصحاب القراءات الجديدة للنص الشرعي ، بل يقصد المصلحة الشـرعية التي جاءت الشـريعة باعتبـارها، وفي الحقيقـة أنه لا يتصوَّر وجود تعارض بين المصلحة والنص؛ فالنص لا يمكن أن يأتي بما يعارض المصلحة، ولا تأتي النصوص إلا بأكمل المصالح وأنفعها . فمقصود الطوفي هو ما يظن أنه نص وليس كذلك؛ وإلا فالنص إذا ثبت لا يمكن أن يخالف المصلحة؛ وإنما تحصل المعارضة مع نصٍّ غير صحيح ولا صريح أو مع مصلحة موهومة غير حقيقية". ويبدو أن سبب هذا الرأي الناقد للإمام نجم الدين الطوفي، أن المعترضين على اجتهاده في مسألة النص والمصلحة، لم يبحثوا فيما قاله استيعاباً كاملاً، أو أنه لم يدركوا مقصده في شرح حديث " لا ضرر ولا ضرار"، والعلامة الطوفي أيضا لم يوضح رؤيته في مسألة النص والمصلحة، من حيث التفرقة الواضحة بين النصوص الظنية والنصوص القطعية، مما جعل البعض، يعتقد أنه عمم على كل النصوص دون التفريق بينهما.