العلاقات الأمريكية الصينية تعود إلى مسارها

31 يناير 2024
ترجمة ـ قاسم مكي
31 يناير 2024

مع كل هذا التركيز على الأزمات الجيوسياسية العديدة حول العالم تتخذ الأزمة التي يحتمل أن تكون أشد خطورة منحى إيجابيا. قال لي إيان بريمر مؤسس مجموعة يوروآسيا: «أكبر مفاجأة إيجابية في الشهور الأخيرة يلزم أن تكون استقرار العلاقات الأمريكية الصينية.»

اجتماع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان مع كبير الدبلوماسيين الصينيين وانج يي لإجراء محادثات خاصة هذا الأسبوع مؤشر آخر للدفء في العلاقات الثنائية والتي شهدت «صراخ» كل طرف في وجه الآخر في مدينة آنكوريج بولاية ألاسكا عام 2021.

كما استؤنفت المحادثات العسكرية - العسكرية. وسجلت كل من وزيرة الخزانة جانيت يلين ووزيرة التجارة جينا ريموندو زيارتين بنَّاءتين للصين. وذكرت القيادة الأمريكية لمنطقتي المحيطين الهندي والهادي في وقت مبكر من هذا الشهر أن الطائرات الصينية منذ قمة بايدن-شي في نوفمبر أوقفت مناوراتها الخطرة كما يبدو. ففي خلال عامين منذ خريف عام 2021 كانت هنالك ما يقارب 300 حادثة من هذا النوع ضد الطائرات الأمريكية وطائرات حلفاء وشركاء الولايات المتحدة. والانتخابات التايوانية التي جاءت على عكس ما كانت تأمل الصين تم التعامل معها بتعقل من كلا الجانبين.

كل هذا جيد. فالشكوك وأوضاع سوء التفاهم وانعدام الاتصال التي اتصفت بها العلاقة الثنائية في أول سنتين من إدارة بايدن كانت خطرة. ومن الممكن أن يتحول التنافس بين البلدين إلى سباق تسلح منفلت في كل شيء من الذكاء الاصطناعي إلى أسلحة الفضاء وأن يقود إلى تشظي الاقتصاد العالمي ويتحول إلى أول حرب بين القوى الكبرى منذ عام 1945.

لقد عدّل كِلا الجانبين مواقفهما. لكن التحول الأكبر جاء من بكين. تولى الرئيس شي الحكم في أعقاب الأزمة المالية العالمية وهو مقتنع بأن قوة الولايات المتحدة تضمحل. فقد قال بوضوح: «الشرق ينهض والغرب يتدهور.» كان يريد أن تقلل الصين من اعتمادها الاقتصادي على الولايات المتحدة وإنتاج تقنيات المستقبل في الداخل. وابتدر سياسة خارجية هي الأكثر طموحا وتشددا.

في الشهور الأخيرة أعلن شي أمام مسؤولي شركات أمريكية أن الصين ليست لديها رغبة في الحلول محل الولايات المتحدة كقوة عالمية مهيمنة. وحاجج هو ووزير الخارجية وانج لي بأن التعاون بين الولايات المتحدة والصين لا مفرَّ منه.

تودَّد شي إلى الشركات الأمريكية في سان فرنسيسكو وفعل رئيس الوزراء لي تشيانج نفس الشيء في دافوس بسويسرا. ربما يعود هذا التحول في الخطاب في جزء كبير منه إلى إدراك الصين أن اقتصادها ظل يتعثر فيما يزدهر اقتصاد الولايات المتحدة.

لكن بشكل أعم عليها الانتباه إلى أن دبلوماسية الذئب المحارب (دبلوماسية المواجهة والصدام - المترجم) قد فشلت ونفَّرت الناس من الهند إلى أستراليا وألمانيا. لقد أوضحت دراسة حديثة أعدها مركز بيو للأبحاث أن 22 بلدا من جملة 24 بلدا استطلع المركز آراءها تفضل الولايات المتحدة على الصين.

واشنطن من جانبها أدركت أن العلاقات الأمريكية الصينية تنحرف بشدة عن المسار ويمكن أن تقود إلى دوّامات وأزمات وصراعات خطرة.

فإذا تم التعامل مع قضية تايوان خصوصا بطريقة سيئة سيعاني كل أحد بما في ذلك التايوانيون الذين يريدون بأغلبية كبيرة استمرار الوضع القائم.

هنالك أيضا جانب إيجابي للعلاقات الأفضل بين القوتين المتشابكتين اقتصاديا بقدر كبير. لقد أوضح العديد من حلفاء الولايات المتحدة لواشنطن أنهم فيما يسعون وراء العون الأمني الأمريكي ستظل الصين أكبر شريك اقتصادي لهم.

لا يشير أي شيء من هذا بأن العلاقات الآن دافئة وحميمة. ستظهر أزمات جديدة. وفيما تغمر السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة الأسواق علينا أن نتوقع جدلا واسعا في بعض البلدان الغربية حول كيفية الرد على ذلك. بالنسبة لألمانيا كانت الصين منقذا عظيما لصناعة سياراتها باستيرادها جزءا كبيرا من الصادرات الألمانية. لكن اليوم السيارات الصينية أكبر مهدد لهذه الصناعة نفسها في ألمانيا. وستكون هنالك توترات جديدة حول الصناعات الدوائية ومنتجات التكنولوجيا الحيوية. لكنها الآن ستحدث في سياق علاقة عمل بين واشنطن وبكين. وهذا ما يُطَمْئِن.

من بين الأسباب التي سمحت بالتحول في مواقف واشنطن إدراكها أن الصين ليست بتلك العظمة المتخيلة. فتماما كما كانت الحال مع اليابان في ثمانينات القرن الماضي أعدَّ واضعو السياسات في واشنطن تقديرات (سيناريوهات) عن نمو الصين في المستقبل وذُعِروا. لكن كما يقول المثل الألماني «الأشجار لا تبلغ السماء طولا.»

لقد تراجع نمو الصين كثيرا. وفاقمت تراجعه العديد من السياسات السيئة في السنوات الأخيرة. فتركيبتها السكانية وإنتاجيتها كلتاهما ضعيفتان. وهما المكوِّنان الرئيسيان للنمو الاقتصادي. نعم تظل الصين قوة كبيرة. لكنها لن تسيطر على العالم.

ثمة خصيصة بالغة الأهمية لعصر الهيمنة الأمريكية الذي بدأ قبل 80 عاما وهي إيجاد واشنطن نظاما أمنيا يمكن فيه للبلدان الأخرى أن تنمو وتزدهر. وطالما لم تحاول تقويض النظام العالمي يمكنها الازدهار اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا.

كان هذا الموقف متجذرا في الثقة بأن الولايات المتحدة يمكنها منافسة الأنداد بنجاح. لكنها أصرت على عدم تحول المنافسة إلى مباراة جيوسياسية «لا ينتصر فيها الطرفان» وتقود إلى انهيار النظام العالمي.

إذا تقيدت الصين بهذه القواعد في اللعبة يجب أن تفسح لها واشنطن مجالا. ومع تقدم اقتصاد أمريكا ستُحسِن واشنطن صنعا بالحفاظ على الثقة في نفسها وإعداد سياسة خارجية ترتكز على تلك الفرضية الصحيحة (فرضية ثقة الولايات المتحدة بقدرتها على المنافسة دون السماح بتحولها إلى مناطحة جيوسياسية) وذلك بدلا عن سياسة تُصاغ بنظرة ضيِّقة ويأس.