الطاقة الذرية والهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي
تمكن الإنسان خلال القرنين الماضي والحالي من تطوير التقانة (التكنولوجيا) إلى درجة أصبح يطلق على بعضها التقانة الهدامة أو المزعزعة، ويُقصد بها تلك التي تؤدي إلى تغيير كبير في طرق إنتاج السلع أو تقديم الخدمات، أو التي تؤدي إلى إخراج سلع أخرى من الأسواق. ومن تلك التقانات الطاقة الذرية والهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي، التي تطورت بشكل أبهر الإنسان وشغل فكره وأخذ بشغاف قلبه.
هذا المقال يذهب إلى ما وراء الحديث عن دور التقانة الهدامة أو المزعزعة في تغيير طرق الإنتاج، فهو سيتناول كيف أن الطاقة الذرية والهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي بقدر ما هي عوامل مهمة لسعادة الإنسان ورخائه فإنها أيضا وسائل لتدمير حياة الإنسان وقيمه وللبيئة وتوازنها. لا أقول هذا لرجعيّة في التفكير أو لرُهاب من التقدم العلمي والتقني، ولكن لأن الماضي والحاضر يؤكدان أن هذه التقانات الثلاث قد أسيء استخدامها إلى درجة أنها سببت في أحيان كثيرة دمارا وكوارث للإنسان وللبيئة أكثر مما جلبته من فوائد ومنافع.
لنبدأ بالطاقة الذرية أو النووية، التي اكتشفتها في ثلاثينات القرن الماضي عالم فيزياء إيطالي اسمه إنريكو فيرمي. وقد تطورت الأبحاث العلمية في هذا المجال، وكان من بين نتائجها قيام أمريكا بصنع القنبلة الذرية وهي سلاح ذو قوة تدميرية هائلة، وكما هو معروف فقد ألقت أمريكا في نهاية الحرب العالمية الثانية قنبلتين ذريتين دمرت بهما مدينتي هيروشيما ونجازاكي، وفرضت بذلك الاستسلام على اليابان. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية افتتحت روسيا أول محطة لإنتاج الكهرباء تعمل بالطاقة الذرية وذلك في عام ١٩٥٤، ثم تلتها أمريكا التي افتتحت محطة مماثلة في عام ١٩٥٧. ومنذ ستينيات القرن الماضي أصبحت الطاقة الذرية مصدرا مهما لتوليد الكهرباء في عدد الدول. وإلى جانب استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء فإن لهذه الطاقة استخدامات سلمية أخرى في الطب والزراعة وتحلية المياه وغير ذلك. غير أن للطاقة النووية مخاطر كبيرة على الإنسان والبيئة، فإلى جانب استخدامها كسلاح مدمر فإن المفاعلات الذرية، أو محطات إنتاج الطاقة النووية، قد تصاب بأضرار تنتج عنها كوارث على الإنسان والبيئة، كما حصل في انفجار مفاعل تشيرنوبل في أوكرانيا ومفاعل فوكوشيما في اليابان. وبالإضافة إلى حوادث انفجار المفاعلات التي تقع صدفة، فإن المواقع النووية قد تكون عرضة لهجوم من دول أخرى، كما حدث في العدوان الذي شنته إسرائيل وأمريكا على إيران مؤخرا، ولا يعرف على وجه الدقة حتى الآن ما سببه من آثار مضرة. وإلى جانب إنتاج القنابل النووية فإن هناك دولا تستخدم مخلفات المفاعلات النووية في إنتاج أسلحة خطيرة مثل قنابل اليورانيوم المنضب، التي استخدمتها أمريكا خلال غزوها للعراق وزودت بها أوكرانيا لاستخدامها في الحرب مع روسيا. كذلك هناك ما يعرف بالقنبلة القذرة، وهي قنبلة بها خليط من مكونات إشعاعية من مخلفات نووية ومواد حيوية وكيميائية ضارة. ومما يزيد الأمر خطورة أن القدرة على إنتاج القنابل القذرة لا تقتصر على الدول بل يمكن إنتاجها واستخدامها من قِبل جماعات أو حتى أفراد.
ثانيا الهندسة الوراثية، وهي عملية إدخال تعديلات على الحمض النووي للكائن الحي، سواء كان إنسانا أو حيوانا أو نباتا، وذلك لإدخال سمات مطلوبة أو التخلص من سمات غير مطلوبة. تعود جذور علم الهندسة الوراثية إلى العام ١٩٠٠ عندما قام العالم الأسكتلندي روبرت مندل بتعديل مورثات أو جينات نبات البازلاء لإنتاج أصناف جديدة منها. وقد تطور هذا العلم إلى درجة أصبح معها بإمكان الباحثين في المختبرات الصغيرة إدخال تعديلات وراثية على بعض المواد الحية. وفي عام ١٩٨٠ تم منح أول براءة اختراع في الهندسة الوراثية وكانت عن إعادة اتحاد المادة الوراثية في الأحياء. تلا ذلك إنشاء أول مصنع للإنسولين الآدمي بطرق الهندسة الوراثية، ثم إنتاج ما سمي «العنزوف»، وهو حيوان مركب من العنز والخروف. كما أجريت تجارب ناجحة على الفئران والقردة والخنازير. وتستخدم الهندسة الوراثية حاليا لعلاج بعض الأمراض عن طريق العلاج الجيني، وكذلك في إنتاج بعض الأدوية التي تفيد الإنسان، إلى جانب تجارب لاستنبات بعض الأعضاء البشرية لتعويض الأعضاء المريضة أو التالفة في الإنسان، كما تستخدم الهندسة الوراثية على نطاق واسع في عمليات التلقيح والإخصاب للذين يعانون من العقم. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إنه تجرى تجارب لتعديل المورثات أو الجينات من أجل زيادة ذكاء الإنسان وقدراته العقلية والجسمية. بيد أن للهندسة الوراثية مخاطر كثيرة، منها أنها يمكن أن تؤدي إلى تشوهات في الأجنة والمواليد، كما أن تعديل المورثات أو الجينات البشرية يثير أسئلة أخلاقية حول حقوق الإنسان والعدالة، بل حول مستقبل الإنسان نفسه من حيث صفاته وسلوكه وقدراته. هناك أيضا مخاوف من أن تؤدي الهندسة الوراثية، سواء بطريقة متعمدة أو نتيجة خطأ، إلى خلق ما يسمى بالرجل الخارق، وهو إنسان له قدرات هائلة قد لا يمكن التحكم بها أو مواجهتها. كذلك قد تستخدم الهندسة الوراثية في تحويل بعض النباتات الغذائية إلى نباتات سامة أو مضرة بصحة الإنسان. وتأتي خطورة الهندسة الوراثية من أنها، كما أشارنا، أصبحت سهلة الاستخدام من قبل أشخاص قد لا يكون لديهم الوعي القانوني أو الحس الأخلاقي أو الوازع الديني ليرتدعوا عن إنتاج ما يضر بالإنسان أو يتعارض مع الطبيعة البشرية ويخل بتوازن الكون.
ثالثا الذكاء الاصطناعي، ويعني قدرة الآلة على أداء مهام تحتاج في العادة إلى ذكاء بشري مثل التعلم وحل المشكلات واتخاذ القرارات. تعود بداية الذكاء الاصطناعي إلى خمسينات القرن العشرين عندما طرح عالم الرياضيات آلان تورينغ سؤالا حول قدرة الآلة على التفكير، وذلك في إطار اختبار قدرة الحاسوب على محاكات الذكاء البشري. وقد استفاد الإنسان من التقدم في أبحاث الذكاء الاصطناعي استفادة عظيمة. ففي المجال الطبي يستخدم الذكاء الاصطناعي في أمور كثيرة، مثل تشخيص الأمراض بشكل أدق وأسرع مما كان. وفي مجال الصناعة يستخدم الذكاء الاصطناعي في خفض تكاليف الإنتاج وفي تحسين جودة ودقة المنتاجات، كما يستخدم على نطاق واسع في مجالات البحث عن المعلومات، حتى أن البعض أصبح يركن إليه في الأمور البسيطة مثل الترجمة وإعداد الرسائل. غير أن للذكاء الاصطناعي سلبيات كبيرة، منها أنه يستخدم في الحروب، حيث تم إنتاج روبوتات مقاتلة ودبابات ومدفعية لا يحتاج استخدامها إلى الإنسان، هذا بالإضافة إلى الطائرات المسيرة عن بعد والصواريخ الموجهة. وقد أكدت تقارير واعترافات ضباط جيش الكيان الصهيوني أنه يتم استخدام الذكاء الاصطناعي بكثافة في الحرب الحالية على غزة، حيث قتل نتيجة لذلك عشرات الآلاف الأبرياء. على الصعيد الشخصي لست من المعجبين بالذكاء الاصطناعي، وذلك لأن البعض يستخدمه للتزوير والاحتيال وقلب الحقائق وسرقة أو انتحال أعمال الغير. ومع أنني استخدمه في الحصول على بعض المعلومات والإحصاءات، لكنني أفعل ذلك بحذر وتحفظ شديدين، لأن بعض المعلومات التي يأتي بها الذكاء الاصطناعي ليست دقيقة، بل هي في بعض الأحيان تلفيق وكذب. لذلك أرى «أن في النفس منه شيء»، أي أنه غير مريح.
أخيرا، وهذا هو بيت القصيد، لا بد من التأكيد أن إنتاج وامتلاك التقانة بأنواعها أمر حيوي للإنسان والدول. لذلك فإن تطويرها وامتلاكها حق طبيعي للشعوب التواقة إلى الحرية والدول السائرة على طريق التنمية والتقدم، ولا يجوز حرمان دول بعينها من إنتاجها وامتلاكها، خاصة في ظل انعدام العدالة في العلاقات الدولية، وفي ظل ابتعاد السياسة عن الأخلاق والمبادئ الإنسانية واستمرار بعض الدول الكبرى وتوابعها وأدواتها في العربدة ومحاولات الهيمنة على العالم. لذلك لا بد لاستخدام تلك التقنيات من مواثيق وقوانين دولية نافذة وصارمة، تعيد الأخلاق إلى السياسة وتردع الدول والكيانات التي تنتهك المبادئ الإنسانية. وبالإضافة إلى المواثيق والقوانين التي يجب أن تُخضع السياسة للمبادئ الإنسانية، هناك أيضا حاجة إلى قيم أخلاقية تُغرس وتُرسخ في المجتمعات بالتربية وعبر وسائل الإعلام ومنابر المساجد لترشيد للحث على التعامل مع التقانات الحديثة برشد وحذر.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية
