الصحفي «العربي» في عصر صحافة المواطن

12 أبريل 2022
12 أبريل 2022

في عصر المواطن الصحفي الذي يستطيع فيه كل من لديه جهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي أو جهاز لوحي أن يصنع محتوى إعلاميا، أو يشارك في صنعه، ونشره في العالم كله بضغطة زر واحدة، يصبح الحديث القديم عن شروط يجب أن تتوافر في الصحفي حديثا في غير زمانه ومكانه. ومع ذلك ما زالت قوانين المطبوعات والنشر والصحافة والإعلام العربية -أيا كان مسماها- تحتفظ بتلك الشروط التي تجاوزها الزمن، وأصبحت خارج السياق التاريخي لتطور وسائل الإعلام.

الواقع أن غالبية قوانين المطبوعات والصحافة والإعلام العربية، سواء القديمة منها التي يعود إصدارها إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أو الجديدة التي ظهرت بعد ثورات الربيع العربي، ويعود أحدثها إلى العام 2018، ما زالت تحرص -دون داع- على التدخل في الممارسة الصحفية المهنية، من خلال تحديد منح التراخيص للصحفيين، وتحديد حقوقهم وواجباتهم، وهو ما يتداخل مع مواثيق الشرف المهنية التي تضعها نقابات وجمعيات الصحافة والإعلام العربية، التي لم تعد تخلو منها دولة عربية تقريبا.

ورغم الحقوق الكثيرة وغير المحددة بدقة التي يرتبها المشرع العربي للصحفيين، فإن الهدف الأساسي من إقحامها في قوانين المطبوعات والنشر والصحافة، هو معادلة وتبرير الواجبات الكثيرة أيضا التي يتم إلزام الصحفيين بها في مقابل تلك الحقوق، وفيما تتميز الحقوق بالعمومية التي لا يمكن ضبطها، وبالتالي لا يمكن الحصول على معظمها، فإن الواجبات تتميز بالتحديد ومنها واجبات إيجابية تلزم الصحفيين بأداء أدوار محددة في خدمة الأنظمة السياسية القائمة، والدفاع عنها وعدم تعريض سلامتها واستمرارها للخطر، وواجبات سلبية ينبغي للصحفيين تجنبها والامتناع عنها.

وتقيد القوانين العربية الحق في ممارسة العمل الصحفي وإنتاج المعلومات والأخبار وتوزيعها على الناس بقيود واشتراطات كثيرة، لم تعد مناسبة للعصر الذي نعيش فيه. والمعروف أن هناك ثلاثة أساليب لمنح حق ممارسة العمل الصحفي، يقوم أولها على حق كل مواطن في ممارسة هذا الحق دون قيود مسبقة، وهو الأسلوب الذي يسود النظم الصحفية الليبرالية، ويتوافق مع العصر الرقمي، ومبادئ حرية الرأي والتعبير، ويقوم الأسلوب الثاني على ربط حق ممارسة العمل الصحفي بالحصول على ترخيص مسبق من السلطة، وهو ما تأخذ به غالبية الدول العربية، أما الأسلوب الثالث والوسطي فيقوم على ربط حق ممارسة الصحافة بضرورة القيد المسبق بجداول نقابات واتحادات وجمعيات الصحافة، ويسود الأسلوبان الأخيران النظم الصحفية المتوارثة في العالم العربي من العهود الاستعمارية، وتشترط أنظمة الصحافة في غالبية الدول العربية، ضرورة الحصول على ترخيص مسبق من الحكومة، فيما يشترط عدد قليل من الدول القيد المسبق في نقابة الصحفيين، وتطلق خمس دول عربية فقط حرية العمل الصحفي.

وقد تبدو فكرة حصول من يريد ممارسة العمل الصحفي على رخصة مسبقة من الحكومة مقبولة، مثلما ترخص الحكومة ممارسي المهن الأخرى كالأطباء والمهندسين والمعلمين، وحتى عمال الصيانة. ولكن مهنة الصحافة مختلفة، خاصة وأنها تتضمن تغطية أخبار الحكومة التي تمنح الترخيص أو تلغيه، وبالتالي قد يخضع الترخيص للصحفيين لهوى الإدارة الحكومية القائمة على منح التراخيص، ويؤثر في استقلالية الصحفيين وقدرتهم على التعبير الحر عن آرائهم، والواقع أن الدول التي تحمي حرية الصحافة لا ترخص الصحفيين تاركة أمر تنظيم المهنة إلى المنظمات المهنية التي تحرص على فرض القيم الأخلاقية على الصحفيين.

إن مراجعة سريعة للشروط التي يضعها المشرع العربي للترخيص للمحرر أو الكاتب للعمل في الصحافة تؤكد الحاجة الماسة إلى إعادة النظر فيها، لكي تواكب التغيرات التي يشهدها الواقع الصحفي والإعلامي في العالم، ودخول الصحفي المواطن على خط العمل الصحفي والإعلامي المتحرر من كل القيود.

لم يعد من المنطقي أن تشترط الدولة مثلا أن يكون الصحفي من مواطني الدولة، وألا يقل سنه عن عشرين أو إحدى وعشرين سنة، وألا يكون قد سبق الحكم عليه بعقوبة جنائية، وأن يكون حسن السيرة طيب السمعة، وألا يكون مرتبطًا بالعمل مع أي دولة أجنبية.

ولا يتوقف تدخل الدولة العربية الحديثة عند الترخيص للصحفيين، ولكن أيضا في اختيار رؤساء تحرير الصحف والمؤسسات الصحفية، وحتى المواقع الإلكترونية.

ويتدخل المشرع العربي في العمل الصحفي والإعلامي من خلال وضع شروط يجب توافرها فيمن يتولى رئاسة تحرير الصحف والمجلات، وهو تدخل أصبح لا محل له من الإعراب في عصر العولمة، وتلاشي الحدود الجغرافية بين الدول، والذي يمكن فيه أن يكون رئيس التحرير من غير مواطني الدولة التي تصدر فيها الصحيفة، كما يمكنه أن يمارس مهماته في المطبوعة عن بعد. ويشمل هذا التدخل تعريف رئيس التحرير، وتحديد الاشتراطات التي يجب توافرها فيه التي يأتي على رأسها أن يكون من مواطني الدولة، بالإضافة إلى أن يكون حاصلا على شهادة جامعية، ولديه خبرة عملية مناسبة، وألا يقل سنه عن خمس وعشرين سنة في بعض الدول وعن ثلاثين سنة في دول أخرى، وأن يكون محمود السيرة حسن السمعة، وألا يشغل أي منصب عام سواء بالتعيين أو بالانتخاب.

وتحرص قوانين الصحافة والمطبوعات والإعلام العربية على إسناد المسؤولية الجنائية لرئيس تحرير الصحيفة أو المحرر المسؤول عن كل ما ينشر في الصحيفة، حتى وإن لم يكن هو من كتب المقال أو المادة الصحفية موضوع الجريمة. وتعاقب القوانين رئيس التحرير عما ينشر في الصحيفة وتربط عقوبة الصحفي كاتب المادة الصحفية بعقوبة رئيس التحرير، خاصة في جريمة القذف في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية، بالإضافة إلى الجرائم الأخرى التي تقع بواسطة الصحف، مثل جرائم التعرض لدين الدولة الرسمي بالإساءة أو النقد، والتعرض للحاكم بالنقد أو إلقاء المسؤولية عليه عن أي عمل من أعمال الحكومة، والتحريض على قلب نظام الحكم أو تغييره، والتحريض على ارتكاب جرائم مخلة بأمن الدولة، والعيب في حق ملك أو رئيس دولة عربية أو إسلامية أو أي دولة أخرى تتبادل معها الدولة التمثيل الدبلوماسي، بالإضافة إلي الجرائم «المطاطة» وغير المحددة بدقة، مثل: «الإضرار بالصالح العام»، و«تكدير الأمن العام»، و«المساس بالوحدة الوطنية»، و«منافاة الآداب العامة».

إن الإصلاح التشريعي الذي نادينا به من قبل فيما يتعلق بالتعامل مع وسائل الإعلام يجب أن يسد كل هذه الثغرات القانونية التي لم تعد تناسب العصر من جانب، وتحد من الثراء الإعلامي الذي يمكن تحقيقه في حال إطلاق حرية العمل في الصحافة ووسائل الإعلام دون قيود أو شروط مسبقة من جانب آخر، بالإضافة إلى تغيير النظرة العالمية السلبية للإعلام العربي، وتعزيز مكانة الدول العربية في تصنيفات الهيئات الدولية المعنية بحرية الإعلام والصحافة.

أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس