الصحافة وفضيلة الاعتراف بالأخطاء

21 يونيو 2022
21 يونيو 2022

الخميس الماضي أقدمت واحدة من كبريات الصحف الأمريكية على إزالة 23 قصة خبرية من موقعها ومنصاتها على الإنترنت بعد أن انتهى تحقيق داخلي قامت به إلى أن الصحفية صاحبة تلك القصص قد اختلقت هذه القصص ومصادر ومقابلات لم تقم بها.

الواقعة التي اعترفت بها صحيفة «يو إس آيه توداي»، من باب «الاعتراف بالذنب فضيلة»، والتي هزت صناعة الصحافة الأمريكية التي تعاني من مشكلات عديدة، زادت من الشكوك التي تحيط بواقع التزام الصحفيين الجدد بمعايير الصحافة الأخلاقية في العصر الرقمي، وفتحت الباب للحديث عن حق من حقوق الأفراد والمؤسسات لدى الصحافة، وهو حق الرد والتصحيح الذي شهد تغييرات واسعة في السنوات الأخيرة في ظل توافر منصات عديدة لتصحيح ما ينشر عن الشخص أو المؤسسة على منصاتهم الخاصة دون انتظار قد يطول لقيام وسائل الإعلام التقليدية بذلك.

تبدأ وقائع القضية برسالة تصحيح خارجية تلقتها الصحيفة من أحد المصادر التي اعتمدت عليها الصحفية جابرييلا ميراندا في إحدى قصصها الإخبارية المنشورة، وعندما تم التأكد من اختلاق القصة شكلت الصحيفة لجنة تحقيق بحثت في كل ما نشرته الصحفية منذ التحاقها بالعمل بها في ربيع العام الماضي. وكشف التحقيق أن بعض الأفراد والمؤسسات الذين نسبت إليهم أقوال في قصصها لا وجود لهم، وأن بعض القصص تضمنت اقتباسات كان يجب أن تنسب إلى مصادر أخرى. وخلصت اللجنة إلى أن الصحفية اختلقت مقابلات ومصادر، وهو ما دفع الصحيفة إلى إجبارها على الاستقالة، والاعتراف بالخطأ، وحذف جميع المواد الصحفية المنسوبة لها على مواقعها ومنصاتها الإلكترونية.

وقد أعادت تلك الواقعة الحديث عما يعتبره البعض «فضائح» صحفية تورطت فيها صحف كبرى، منها إعادة صحيفة «الواشنطن بوست» في عام 1981 جائزة بوليترز (أرفع جوائز الصحافة في الولايات المتحدة)، بعد أن اعترفت مراسلتها «جانيت كوك» بأنها اختلقت القصة الفائزة، وكانت عن مدمن مخدر الهيروين يبلغ من العمر ثماني سنوات، واعتراف صحيفة «نيويورك تايمز» في عام 2003 أن مراسلها «جيسون بلير» اختلق أحداثا نشرت في قصص كان قد سرقها من قصص مراسلين آخرين. وأجبرت صحيفة «يو اس آيه» مراسلها «جاك كيلي» على الاستقالة في عام 2004 بعد أن فشلت في التحقق من صحة القصص التي جلبها من مختلف أنحاء العالم ونشرتها الصحيفة.

وقد تعهدت الصحيفة الأمريكية في بيان نشرته على موقعها وفي نسختها الورقية أيضا عن أسفها لما حدث، وعزمها الاستمرار في تعزيز وتقوية جهودها في إعداد التقارير الصحفية وتحريرها، وتشديد إجراءات التحقق من القصص الخبرية قبل نشرها لمنع تكرار هذه الفضيحة، وتطوير آليات تلقي الشكاوى وطلبات الرد والتصحيح ممن تتصل المادة الصحفية بهم، والتأكد من أن القصص تحتوي على معلومات تعريفية واضحة وكافية للأفراد المقتبس منهم، والتأكد من أن الصحفيين يتخذون الخطوات المناسبة في جميع الأوقات للتحقق من معلومات المصادر، بالإضافة إلى القيام بالمزيد من التدقيق على صحة المصادر التي ترد في تقارير الصحفيين من خلال «الاتصالات العمياء» مع مصادر عشوائية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر البريد الإلكتروني.

الغريب في الأمر أن مثل هذه الأخطاء تحدث رغم كل ما تضعه وسائل الإعلام من مدونات ومواثيق أخلاقية تلزم جميع الصحفيين العاملين بها. فصحيفة «يو اس آيه» لديها مبادئ معلنة للسلوك الأخلاقي تهدف إلى توجيه الصحفيين الذين يعملون مع أي منصة إخبارية بالشبكة، بما في ذلك الصحف والمواقع الإلكترونية والأجهزة المحمولة والفيديو وقنوات التواصل الاجتماعي والبث الحي. وتشمل هذه المبادئ خمسة التزامات رئيسية تتعلق بالبحث عن الحقيقة والإبلاغ عنها بطريقة صادقة، وخدمة المصلحة العامة، وممارسة أقصى حد من العدالة والشفافية، والحفاظ على الاستقلال، والتصرف بنزاهة، بالإضافة إلى عدد كبير من المبادئ الفرعية من بينها العمل بشرف وأخلاق في التعامل مع مصادر الأخبار، وعدم سرقة أو اختلاق المعلومات، والعمل على تصحيح الأخطاء على الفور، وهو ما تم في قضية غابرييلا ميراندا.

هذه القصة وغيرها من قصص الاعتراف بالأخطاء الصحفية التي تبادر إليها الصحف ووسائل الإعلام الكبيرة في العالم تجعلنا نتساءل عن صحافتنا العربية ومدى التزامها بالتحقق من صحة مصادر صحفييها، وصحة التقارير التي تنشرها، خاصة وأننا أصبحنا نعاني معاناة حقيقية من الأخبار المضللة والأخبار المزيفة التي تنهال علينا على مدار الساعة دون أن نحرك ساكنا، والتساهل في تفعيل حقوق الأفراد والمؤسسات تجاه الصحافة، وأهمها حق الرد والتصحيح الذي فتح الباب أمام الصحيفة الأمريكية لاكتشاف هذه الفضيحة، والذي ما زال يمثل حقا ضائعا في الواقع الإعلامي العربي، رغم انه حق مكفول ومنصوص عليه في كل مواثيق الشرف وقوانين الصحافة والإعلام العربية. ما زال هذا الحق غير مفعّل بشكل كامل في واقعنا الإعلامي العربي، ومن النادر أن تقرأ أو تسمع أو تشاهد تصحيحا لمعلومات نشرتها صحيفة أو موقع إخباري أو محطة تلفزيون في العالم العربي. ولعل هذا ما جعل الأفراد والمؤسسات تعزف عن إرسال ردود وتصحيحات إلى وسائل الإعلام، وتقوم بعملية الرد والتصحيح على منصاتها الإعلامية الخاصة، رغم إقرار مواثيق الشرف الصحفية والإعلامية سواء الوطنية أو الإقليمية هذا الحق وجعله حقا واجبا وملزما للصحف ووسائل الإعلام، وحرص قوانين الصحافة والمطبوعات والنشر العربية أيضا على النص على حق الأفراد والمؤسسات في الرد على ما ينشر عنهم في الصحف ووسائل الإعلام وتصحيح ما يستوجب التصحيح، وتنظم ممارسته. وتبالغ بعض القوانين في اعتبار عدم نشر الرد من قبيل الجرائم التي يعاقب رئيس التحرير الممتنع فيها عن نشر الرد بالحبس والغرامة.

ورغم الاختلافات الطفيفة في نصوص القوانين العربية فإنها لا تخرج عن ثوابت أصبح متعارفا عليها، مثل وجوب نشر الرد والتصحيح في نفس المكان وبنفس الحروف التي نشرت بها المادة الصحفية المطلوب تصحيحها، وأن يكون النشر بدون مقابل مالي إذا لم يتجاوز مثلي مساحة المادة الصحفية المطلوب تصحيحها، وجواز عدم نشر الرد والتصحيح إذا كان مضمونه مخالفا للقانون أو النظام العام أو منافيا للآداب العامة.

لا سبيل أمام صحافتنا العربية لاستعادة قرائها واسترداد الثقة فيها كمصدر إخباري لا غنى عنه، سوى الالتزام الواعي بأخلاقيات العمل الصحفي. ومن شأن هذا الالتزام أن يجعل منها مصدرا مهما يعود إليه الناس عندما تحاصرهم الأكاذيب والشائعات والأخبار المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي. إنها دعوة لأن تضع كل صحيفة عربية مدونة أخلاقية خاصة بها يوقع عليها صحفيوها ويلتزمون بها، ودعوة للمسارعة إلى الاعتراف بأية أخطاء تقع أثناء الممارسة الصحفية.

لقد تعاملت الصحف الأمريكية المنافسة مع فضيحة «يو اس ايه» بعقلانية وحكمة، فنشرت اعتذارها واعترافها وانتهى الأمر عند هذا الحد، ولم تجلدها أو تنتقص منها، لأنها تعلم أنه ليس عيبا أن نعترف بأخطائنا حتى نكون قادرين على منع تكرارها في المستقبل، ولذلك تعاملت مع الأمر من منطلق «من كان منكم بلا خطيئة، فليرم صحيفة «يو اس ايه توداى» بحجر»، ولذلك لم يرم أحد الصحيفة بالأحجار، ونشروا بيانها دون أن يخالط ذلك أية شماتة.

أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس