الشباب وسوق العمل .. فجوة مهارات أم فرص؟

25 أغسطس 2025
25 أغسطس 2025

كانت السنوات الماضية شديدة التعقيد على سوق العمل العالمي؛ حيث باتت ندرة الوظائف وزيادة أعداد الباحثين تحديا يواجه كل الدول، يؤرق المجتمعات، ويشغل بال الحكومات، لا فرق بين دولة متقدمة أو نامية. فالتغيرات تتسارع في أنماط ومهارات العمل، والأتمتة توسع الفجوة بين العرض والطلب؛ إذ تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن 1.2 مليار شاب سيصلون إلى سن العمل خلال العقد القادم، في حين يُتوقع خلق نحو 420 مليون وظيفة فقط. 

الواقع أن الإشكاليات في سوق العمل العالمي ترتبط بالعديد من العوامل التي تراكمت على مدار عقدين من الزمن بدءًا من الأزمة المالية العالمية في عام 2008 مرورا بالتراجع الحاد في أسعار النفط وصولاً إلى تفشي جائحة كوفيد-19 في 2020، وما تبعها من موجات تضخم، وتوترات جيوسياسية وتجارية أدت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي. 

وكان العامل الأكثر تأثيرا التحول الجذري في هيكل الاقتصاد العالمي نتيجة التطور التقني الذي أعاد تشكيل ملامح سوق العمل؛ فالأتمتة قللت الحاجة للعامل البشري، وغيرت نوعية المهارات والوظائف المطلوبة بشكل كبير. 

ونظرا للأهمية البالغة لتوفير فرص العمل من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية؛ باتت هذه الظاهرة محور اهتمام الدول وخبراء الاقتصاد. فقد تناولت دراسة نشرتها مجلة فوكس للأعمال الدولية حول أزمة البطالة ظاهرة «النمو الاقتصادي بدون وظائف»؛ حيث يشهد الاقتصاد نمواً لا ينعكس في شكل فرص عمل جديدة، وهذه الظاهرة تتعارض مع النماذج الاقتصادية السائدة التي تفترض أن التوسع الاقتصادي يؤدي بالضرورة إلى خلق الوظائف، وتحسين مستويات المعيشة. 

ومما أكدت عليه الدراسة ضرورة توجيه النمو الاقتصادي ليكون عادلا وشاملا ومعززا للتوظيف بتطوير السياسات التعليمية والتدريبية؛ لمواكبة التغيرات التقنية، إلى جانب تبني سياسات متنوعة تركز على خلق الوظائف، وتنظيم سوق العمل، وإعطاء الأولوية للابتكار، وريادة الأعمال باعتبارها أدوات فاعلة لتوليد فرص عمل مستدامة. 

ورغم أن هذه الدراسة ركزت على الاقتصادات المتقدمة والناشئة، مثل: الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، والهند؛ فإن ثمة نقاط تماس واضحة مع واقع سوق العمل في سلطنة عمان. فالتوجه المتسارع نحو التحول الرقمي واستغلال تقنيات الثورة الصناعية الرابعة من شأنه أن يؤثر على فرص وأنماط العمل، ويستدعي استشرافا مبكرا للانعكاسات على سوق العمل. 

على الجانب الآخر تشهد سلطنة عمان تحولا تنمويا أثمر نموا اقتصاديا بمعدلات جيدة؛ فقد سجل متوسط النمو الفعلي للناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة 3.9 % خلال الفترة من 2021 حتى 2023، ومن المتوقع أن يواصل الاقتصاد النمو بمعدل 2.2% هذا العام، وما هو واضح للعيان أنه لم يصاحب ذلك نمو مماثل في معدلات توظيف العمانيين. 

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن سوق العمل العمانية تتسم بخصوصيات عدة، كثقافة العمل، وطبيعة الهرم السكاني الذي يمثل الشباب شريحة واسعة منه، إلى جانب الاختلال الواضح في التركيبة السكانية؛ نتيجة زيادة عدد الوافدين، واستحواذهم على العدد الأكبر من فرص العمل المتاحة، والفجوة التي مازالت قائمة بين خطط وسياسات التعمين، وواقعية تطبيقها. فمنذ عام 2021 حتى نهاية 2024 ارتفع إجمالي عدد العاملين في سلطنة عمان من 2.2 مليون إلى 2.7 مليون، أي بزيادة نحو 500 ألف وظيفة. وتظهر الأرقام أن النسبة الكبرى من هذه الوظائف كانت للوافدين؛ فعدد العمانيين العاملين ارتفع من 774 ألفا في 2021 إلى نحو 858 ألفا فقط بنهاية 2024، منهم 402 ألف في القطاع الخاص مقابل 1.4 مليون وافد يعملون في هذا القطاع. 

من المؤكد بطبيعة الحال أن تمكين الشباب، وقضايا التشغيل، وتعزيز تنافسية المواطن في سوق العمل تأتي في مقدمة الأولويات الوطنية، وتدور حولها العديد من الاستراتيجيات والسياسات، إلا أن الواقع لا يعكس تغيرا جوهريا في بنية سوق العمل؛ إذ لم تؤدِّ خطط التوظيف والتدريب إلى معالجة جذرية لمشكلة الباحثين عن عمل؛ فمعدلات التعمين ما تزال منخفضة في القطاع الخاص. واستحداث 30 ألف وظيفة كل عام لا يعني بالضرورة أن السوق أصبح أكثر حيوية أو أكثر اتساعا، خصوصا مع ارتفاع معدلات الدوران الوظيفي، وغالبًا ما تُعلن الأرقام دون توضيح حول طبيعة الوظائف، أو مدى استدامتها، أو ارتباطها الفعلي باحتياجات الاقتصاد. 

أسئلة كثيرة تتكرر كل حين عن المشروعات والاستثمارات الكبرى، ودورها في توفير فرص عمل فعلية؛ فالإجمالي التراكمي للاستثمار الأجنبي حقق زيادات كبيرة خلال السنوات الماضية، ويتجاوز حاليًا 30 مليار ريال عماني، وفي المدن والمناطق الصناعية والخاصة يتخطى حجم الاستثمار التراكمي 20 مليار ريال عماني. مع ذلك لا يظهر التأثير المطلوب لهذه الاستثمارات على التوظيف؛ فأرقام الباحثين عن عمل مستمرة في الارتفاع، والتحديات قائمة، خاصة فيما يتعلق بدور القطاع الخاص في خلق فرص العمل، وهو الذي ينبغي أن يكون قاطرة النمو الاقتصادي، ما يضعنا أمام احتمالات أن المشروعات الكبرى لا تزال في طور التخطيط والتنفيذ، أو أن القائم منها لا يوفر فرص عمل كافية، أو يُدار بطريقة لا تعطي الأولوية لتشغيل المواطنين؛ فأعداد من يتم توظيفهم لا تعكس تأثيرا ملموسا لحجم هذه المشروعات التي تصل كلفة بعضها إلى مليارات الريالات. 

وبالمجمل؛ هناك قضايا أخرى مرتبطة بسوق العمل، ويدور حولها جدال ساخن بين الفينة والأخرى، خاصة تسريح الموظفين، وقدرة القطاع الخاص على رفع الحد الأدنى للأجور، أو تحمّل كلفة توظيف المواطنين، ومدى رغبته في ذلك، وكيف يُنتظر من مواطن أن يقبل على عمل لا يغطي تكاليف الحياة الأساسية أو لا يتناسب مع تخصصه الدراسي وطموحاته المهنية؟ 

إن الإشكاليات القائمة في سوق العمل تتجاوز ما يطرح في المؤتمرات والملتقيات، وما يدور في فضائها من أفكار، ومن المفارقات أن توصياتها غالبا ما تؤكد على أهمية التخصصات الحديثة كالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بينما تُظهر الإحصاءات أن نسبة كبيرة من الباحثين هم من خريجي التخصصات ذات العلاقة بالتقنيات، وهذا يطرح تساؤلات جدية حول العلاقة بين الخطاب التنموي من جهة، والواقع الفعلي في سوق العمل من جهة أخرى. 

كذلك؛ رغم أن التوافق بين مخرجات التعليم وسوق العمل يمثل ضرورة ملحة، إلا أن إشكاليات سوق العمل لا يمكن ربطها فقط بمخرجات التعليم؛ فهناك قطاعات مثل النفط والمصارف ترتفع فيها معدلات التعمين، لكن في قطاعات أخرى لا توجد البيئة القادرة على احتضان هذه المخرجات، وتحويلها إلى قيمة مضافة. 

ثمة أمر آخر أكثر أهمية يتعلق بواقع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والناشئة؛ القطاع الذي تراهن عليه الدول كوسيلة لظهور صناعات وأنشطة مبتكرة تعزز النمو الاقتصادي، وتسهم في توليد فرص العمل. وكان نتاج السياسات والحوافز التي أطلقتها الدولة الزيادة في عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ إذ بلغ عدد المسجل منها في «ريادة» بنهاية العام الماضي قرابة 145 ألف مؤسسة، لكن عددا كبيرا من هذه المؤسسات يتم إنشاؤها بدافع الرغبة، أو الحاجة لافتتاح مشروع أكثر من اعتمادها على دراسات جدوى واضحة ومبنية على دراسة السوق. وكثير منها بدون استراتيجية ما يجعلها تواجه خطر الفشل في وقت قصير. 

وبناء على التجارب العالمية في قطاع ريادة الأعمال والشركات الناشئة؛ فإن الأساس لنجاح هذه المشروعات هو البيئة المواتية لتحفيز الإقبال عليها، ودعم استدامتها من خلال تطوير التشريعات، والتوسع في تأسيس حاضنات أعمال متخصصة في المجالات المرتبطة بالتوجهات الاستراتيجية للاقتصاد من بينها التكنولوجيا، والاقتصاد الرقمي بما يفتح آفاقًا لتوظيف الخريجين في مجالات المستقبل. أمر آخر مهم في هذا الجانب، وهو توفير نماذج لمشروعات ثبت جدواها الاقتصادية من خلال «بنك للمشروعات» يستند إلى دراسات دقيقة، ويأخذ في الاعتبار متطلبات الاقتصاد المحلي في مختلف المحافظات، ويحوّل هذه المؤسسات إلى محرّك فعلي للتشغيل والتنمية. 

كما أنه من الضرورات أن تكون المتابعة جادة لنتائج سياسات المحتوى المحلي، وتوجيه المشتريات الحكومية نحو مؤسسات ريادة الأعمال بما يمنحها فرص البقاء والنمو. 

خلاصة القول إن الحكومة منذ أن بدأت تنفيذ مستهدفات الرؤية المستقبلية 2040 أطلقت الكثير من السياسات والحوافز؛ لمعالجة التحديات التي يواجهها القطاع الخاص، وإشراكه في جهود التنمية، وتوفير فرص العمل، بيد أن الواقع اليوم يؤكد أهمية تبني إصلاحات أوسع، والتركيز على نموذج اقتصادي يربط النمو بالمستهدفات والأولويات -خاصة توفير فرص العمل-، والاستفادة من الكفاءات الوطنية مع توجيه جانب من الاستثمارات والحوافز الاستثمارية نحو المشروعات الداعمة للتشغيل، وتطوير آليات موضوعية؛ لقياس الأثر الحقيقي لهذه الاستثمارات على سوق العمل، ومدى مساهمتها في تقليص أعداد الباحثين، بالإضافة إلى دمج متطلبات سوق العمل مع رؤية متكاملة للتعليم من حيث نوعية التخصصات، وآليات الإعداد، والتدريب والتأهيل المهني، وإجراء دراسات مفصلة حول سوق العمل، وأسباب ضعف التعمين. 

وأخيرا -وهو الأهم-؛ إن التحولات المتسارعة بسوق العمل في ظل التطور التقني، وتغير طبيعة الوظائف تتطلب بناء منظومة تتسم بالمرونة، والقدرة على التكيف؛ تحقق تطلعات الشباب، وطموحاتهم المتزايدة. ولذا؛ فإن مسار النمو الاقتصادي يجب أن يتم توجيهه بطريقة تتيح استثمار الكفاءات البشرية، وتبني سياسات واضحة في الإحلال والتأهيل، وهي أمور حيوية لضمان استقرار سوق العمل، وتحقيق التطلعات الوطنية. 

ويبقى الشباب هم الثروة الحقيقية للوطن، والثروات يجب أن تستغل؛ فبناء الأوطان وازدهارها لا يتحقق إلا بسواعدهم وإبداعاتهم؛ لذا فإن تمكين الشباب، وتأهيلهم، وتوفير فرص العمل المناسبة، وتهيئة المناخ لهم هو الضامن الأساسي لتحقيق الاستقرار والتنمية الشاملة. 

حمود المحرزي من أسرة تحرير «عُمان»