السودان يا عرب

20 يناير 2024
20 يناير 2024

المشهد العربي برمته يمر بأوضاع مأساوية ما بين بلد وآخر، فهاهم الفلسطينيون في غزة والضفة يتعرضون للموت والتشريد والجوع صباح مساء، رغم جسارة المقاومة وبسالتها إلا أن التباين الواضح بين الأسلحة الفتاكة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، والوسائل التقليدية التي يستخدمها الفلسطينيون جميعها تؤدي إلى استشهاد ما يزيد عن مائة كل يوم، تحت أعين وبصر العالم، ونحن نشاهد هذه المأساة وقلوبنا تنفطر على ما يحدث لأهلنا في غزة، وقد أخذتنا هذه المأساة ولم نعط اهتماما كافيا لما يحدث في السودان، الذي يشهد حربا أهلية ضارية امتدت من العاصمة الخرطوم إلى معظم الولايات، وهي مأساة أخرى لا تقل ضراوة عما يحدث في فلسطين، إلا أن الحرب هنا هي حرب سودانية سودانية افتقد فيها الطرفان المتصارعان الضمير الوطني، حينما راح كل فريق يستقطب قطاعا من القبائل التي راحت تناصر فريقاً على الآخر في مشهد مأساوي استخدمت فيه كل الأسلحة الفتاكة.

السودان بلد كبير في مساحته وفي موارده الزراعية وفي كوادره الفنية والعلمية والسياسية، وهو لا يستحق أن يعيش هذه المأساة التي طالت لما يقرب من عام، وأدت إلى قتل النساء والأطفال والأبرياء، وقد عجزت المؤسسات الإقليمية والدولية عن حصر عدد القتلى، التي قال البعض أنها تجاوزت عشرات الآلاف، فضلا عن نزوح الملايين إلى دول الجوار في مشهد بائس، بعد أن رفض الطرفان المتصارعان مجرد الجلوس والحوار، بينما هان عليهم السودان بشعبه وموارده، قد عجزت بعض الدول العربية والأفريقية عن جمع الطرفين على مائدة المفاوضات للوصول إلى حل ينقذ السودان من هذا المصير، بعد أن توقفت وسائل الحياة لدرجة أن السودان يواجه مجاعة فاقت تصور كل المحللين، في بلد كنا نظن أنه الرصيد الاستراتيجي للغذاء، ليس للسودانيين فقط وإنما لكل العالم العربي، حيث يملك السودان ما يقرب من مائة مليون فدان جميعها صالحة للزراعة.

أتابع بقلب يعتصره الألم نزوح الملايين من منازلهم سواء إلى مناطق سودانية بعيدة عن الاقتتال، أو النزوح خارج وطنهم وفي مقدمتهم جموع المثقفين والفنانين والأكاديميين وقادة الأحزاب، بينما كنا نعوّل كثيرا على النخبة السياسية التي لم تنخرط في الاقتتال، إلا أن الرجلين المتصارعين البرهان وحميدتو بحكم خلفيتهما العسكرية لم يرحبا بدخول النخبة السياسية في المشهد، ربما لأنهما لا يقبّلان بفكرة الديمقراطية التي يعتبرها المثقفون هي الوسيلة الحضارية للخروج من الأزمة، وقد استقوى كل فريق بما لديه من عداد عسكري وقبّلي، فضلاً عن دعم خارجي من أطراف معروفة تورطت في هذا الصراع، وهو ما يضاعف من تأجيج القتال، ولعل ما يحول دون بارقة أمل دخول أطراف عربية وأفريقية على المشهد داعمة لهذا الفريق أو ذاك.

إن أخطر ما تواجهه الشعوب هي الحروب الأهلية وخصوصاً حينما تحدث في مجتمع تتنوع جنسياته العرقية والدينية واللغوية، حيث يعم الجهل والاستقواء بالعشيرة على حساب الدولة وافتقاد القانون، والخطير في الحالة السودانية هو انقسام الجيش إلى جيشين، كل منهما يملك رصيدا ضخما من الأسلحة التي تحصد الناس في منازلهم ومزارعهم ومصانعهم كل يوم، ونحن نشاهد عبر التلفاز جموع المقاتلين من الطرفين، وكلاهما يرفع شعار «الله أكبر»، وكأنها حرب بين المسلمين وكفار قريش، هكذا يُستدعى الدين بين أبناء الوطن الواحد، بينما القضية سياسية ولا مخرج منها إلا بالسياسة والتفاوض وتعظيم دور العقل ومراعاة مصالح الناس، الذين لا ناقة لهم في هذه الحرب ولا جمل، وعلى المتسببين في هذه الحرب أن يواجهوا أنفسهم وأن يعترفوا بخطئهم، فلن يرحمهم التاريخ ولن يغفر لهم السودانيون ما تسببوا فيه من مآس دفع فيها الشعب ثمن نزواتهم وأخطائهم، بينما غاب السودان بجروحه وآلامه عن المشهد العربي في ظل العدوان على غزة، بل تراجع المشهد الدولي عن العناية بما يحدث في السودان، حتى الجامعة العربية التي افتقدت كل دور لها، سواء في غزة أو السودان أو حتى اليمن، وتراجعت المبادرات العربية، حتى الإعلام العربي، فقد غاب عن أزمة السودان، لدرجة أن ما يحدث في السودان يأتي في نهاية أخبار العالم، وكأن أحداثها تقع في عوالم بعيدة.

يتحمل كل قادتنا وسياسيونا ومفكرونا تبعات ما يحدث في السودان، حينما اعتبرنا الأزمة شأن سوداني خالص، نتحمل جميعا المسئولية عندما تركنا بعض أقطارنا العربية تدعم فريقاً على حساب الآخر، وتصور الجميع إمكانية حسم القضية بالسلاح والقتل، متغافلين عن تبعات الأزمة على الشعب السوداني الشقيق، الذي انقسم إلى فريقين، لن يغفر السودانيون ما تعرض له أبناؤهم من القتل أو هدم المنازل أو حرق المنشآت للفريق الآخر، وسيبقى السودان رهن للثأر والقتل والضغائن، التي عمّقت الانقسام وأحالت الوحدة الوطنية إلى صراعات لشعب كان يتحرق شوقا إلى التنمية والبناء، ولن يغفر السودانيون لمن تسببوا في هذه الحروب المأساوية، وفي ظل كل هذا فالسودان مهدد بالتقسيم إلى دويلات، لكي يصبح أكثر من سودان، وهو أمر تسبب فيه قادته من قبل، حينما انفصل جنوب السودان عن السودان الأم، وكانت نفس الأسباب التي أدت إلى الحرب الحالية.

كل يوم يفقد العرب أحد مصادر قوتهم، فبينما كنا نحلم بالوحدة العربية في حقبة الستينيات من القرن الماضي، إذا بأوطاننا تشهد أمراضا طائفية ومذهبية وعرقية، جميعها من صناعتنا حينما غاب العقل، وقد أسلمنا مقاليد أمورنا إلى غير المؤهلين من بني جلدتنا.

أيها العرب الأشاوس السودان يتعرض للدمار والضياع والانقسام إلى دويلات قبلية، بينما تغفل أعيننا عن هذا الشعب الطيب الكريم، الذي أضاعه بنوه ممن استقووا بعشائرهم وسلاحهم ودعم الأغراب لهم، أليس من بين قادتنا وحكامنا وساستنا من يأخذ على عاتقه إنقاذ هذا البلد العظيم؟ هل ماتت الجامعة العربية بعد أن غابت عن كل مآسينا، وقد أصبحت مجرد كيان هلامي ضعيف يديره مجموعة من الموظفين فاقدي الحيلة، لدرجة انه لم يبق من الجامعة العربية إلا لافتة معلقة على نيل القاهرة!

السودان في حاجة إلى حاضنة عربية من خلال مبادرة جسورة، لعل من بين أوطاننا رجال يتحملون هذه المهمة، ولدينا الكثير من العقلاء والخبراء، ومن خلفهم ملايين العرب الذين يتألمون على ضياع بلدٍ كبير يعد رصيدا استراتيجيا للعرب، وخصوصاً فيما يملكه السودان من إمكانات زراعية وبشرية هائلة في حاجة إلى سياسات جديدة وحكم رشيد ينتصر للعقل على حساب المصالح الشخصية والعشائرية الضيقة.

إذا كانت الأزمات والهموم العربية من الكثرة لدرجة أنها استعصت على الحل، فإلى من نوجه أصابع الاتهام؟ هل نحمّل العرب كل همومنا وأمراضنا وأحقادنا؟ هل بذلنا من الجهد ما يكفي لإنقاذ ما تبقى من أوطاننا وعروبتنا ؟ الهموم خطيرة والنضال في سبيل حماية أوطاننا لم يعد ترفا، وإنما كلنا مهددون طالما بقي مصير أوطاننا في يد من لا يقدرون المخاطر التي تحيق بنا.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).