الزمن في الوعــي والاضطراب المعرفي به

26 أكتوبر 2022
26 أكتوبر 2022

كيف يحضر الزمن في الوعي العربي المعاصر؟ ما هي مجمل تمثـلات الزمن بأبعاده الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل) كما تعبّر عنها خطابات الفكر العربي؛ ولـم تبدو الخطابات تلك شديدة التباعد في وعيها الزمن؛ وهل هذه، يا ترى، حال خاصة بالوعي العربي لا تشترك معه ثقافة أخرى فيها أم حال عامة قد تستبد بالثقافات جميعها؟ ما أغنانا عن القول، إذن، إنها أسئلة تـؤشر إلى أن مسألة الزمن هذه مسألة إشكالية في الوعي العربي لا مسألة عارضة.

قد يكون أظهر تعبير عن الإشكالي في هذه المسألة انْسِكَانَ معظم الوعي العربي المعاصر بفكر الماضي وسحر رمزيـته ومرجعيته، وما يخضع له ذلك الماضي من أمثـلة Ideolization وتعال في الأغلب الأعم من الإنتاج الفكري العربي. وليس مرد انْسكان العربي بماضيه إلى ما في ذلك الماضي من سحر، ومن عوامل الجاذبية والإغراء، أو ما يعتـقد أنه كذلك، فقط، بل هو يترجم حالة من الاضطراب، في المقام الأول؛ الاضطراب الذي تمحي فيه -ومعـه- الحدود الفاصلة بين الأزمنة فتتداخل في بعضها، ولا يستقل فيها الواحد بكيانه الخاص وشرطه الموضوعي على النحو الذي تدرك فيه حوادثه ومعارفه في حدود نظامها الزمني الذي ولدت فيه، وضمن نسبية عوامل المكان والزمان والسياقـية. وهذه أشبه ما تكون بالحال المرضية؛ لأن ملكة التمييز، لدى المصاب بها، تتعطل فلا تعود تضع المائـز الضروري بين الأزمنة والتواريخ والشروط، لتتراكب هذه وتـعرض نفسها في الوعي وكأنها زمن واحد!

قد نعثر على قرائن عدة على هذه الحال من الاضطراب المعرفي لدى معظم تيارات الوعي العربي المعاصر، في وعيها الزمن. وفي هذه الحال تكون المعضلة عامة وشاملة، ويكون وجودها على هذا النحو كافيًا وحده للقول إن خللًا في الرؤية إلى الزمن ينتاب الوعي العربي برمته، على تعدد مقالاته وتباينها، ويمثـل كابحًا أمام معرفة متوازنة لهذا البعد الأساسي في الوجود (= الزمن). وقد نعثر على القرائن تلك، في كثافة عالية من معطياتها وتمظهراتها، لدى تيار بعينه من تيارات الوعي العربي أشد انشدادًا إلى الماضي من غيره من التـيارات. وهنا يكون ما هو عارض وجزئي من ذاك الاضطراب في تيارات الفكر الأخرى جوهريًّا وكـليًّا في هذا التـيـار. ولكن، بمقدار ما لا يكون جائزًا النظر إلى هذا الـتـيار بما هو تمثيل أو تجسيم للوعي العربي رمـة والانزلاق -من ثمة- إلى سحب سمات الجزئي على الكلي وأخذ الثاني (= الفكـر) بجريرة الأول (= التـيار)، لا يجوز بالتبعة وضع عازل بينهما يحل الجزئي محل المنفصل عن الكلي، فيوحي وكأن تـيار التمذهب للماضي ليس من الوعي العربي المعاصر إلا اسميا، بل هو مما ينتمي إلى معارف الماضي! هذا النوع من التأويل الذاهب إلى الفصل الكلي بينهما رديف لذاك التأويل المشدد على الوصل الكلي بينهما: كلاهما يخطئ العلاقة بين الجزئي والكلي، ويقدم عنها قراءة مغلوطة لا وظيفة لها سوى المزيد من التلبيس والتغليط.

الجوامع والمشتركات بين تيارات الوعي العربي في اضطراب معرفتها بالزمن عديدة لا حصر لها، وهي تخترقها أفـقـيا وإن تفاوتت في معدل ما في كـل منها من ذلك الاضطراب. لعل أظهرها في الفكر المعاصر ذلك الميـل العام في الوعي إلى التفكير بمنطق المفارقة التاريخية أو الخلط بين الأزمنة Anachronism. نـلفي هذا الميل حتى لدى التـيارات التي تبدي تبرما من كل نزعة ماضوية مثل تيارات المعاصرة والحداثة بمدارسها المختلفة. قد لا يكون الماضي من هواجس تيار فكري ما، لكن مجرد الحكم على ذلك الماضي -على معارفه وأفكار مفكريه وعلى ظواهره السياسية والاجتماعية...- حكما سلبـيا أمر كافٍ كي يطـلـعنا على زلل نظرة ذلك التيار إلى الأزمنة، متمثلا في الخلط بينها والذهاب إلى وضع أحدها (الماضي) في ميزان غيره (الحاضر)، وبالتالي، الحكم عليه على مقتضى قيم الحاضر! والحق أن هذه لعبة «معرفية» مألوفة ومدروج عليها في خطابات الحداثة في الفكر العربي، خاصة حينما ينصرف ممثـلوها إلى التفكير في الماضي والتاريخ والتراث، فيستهويهم النظر إلى قضايا زمن تصرم بعيون زمن حاضر ومقاييسه وقيمه! إن أول ما يقع هـدره في هذا الضرب من النظر إلى زمن ما هـو تاريخية ذلك الزمن، أي شرطه الموضوعي الذي يمتنع على وعي أن يفهم ظواهر ذلك الزمن إلا في ضوء أحكامه التي يرتـبها كشرط. والمفارقة أن دعاة الحداثة ودعاة الأصالة لا يجتمعون على شيء سوى الاجتماع على الفتك بعامل التاريخية والزمنية الموضوعية!

أما في الوجه الخاص من هذا الاضطراب في المعرفة بالزمن، الذي يسم تيارا بعينه أكثر من غيره، هو التـيار الذي يتمذهب للماضي ويعصوصب عليه، فإننا نصطدم بحالة غير مسبوقة من اختزال الزمن جملة إلى لحظة منه هي اللحظة «المرجعية» (= الماضي). وهذه النزعة الاختزالية للزمن إلى الماضي ديــدن القوى التي تبدي قدرا كبيرا من المحافظة تجاه المتغير والمتحول والطارئ، وقـدرا رديفا من التمسـك بالثابت والمألوف والمدروج عليه. تتعدد تسميات تلك القوى في المجال التداولي العربي (محافظة، ماضوية، تراثـوية، أصالية...)، لكن سمات تفكيرها مما لا يخطئه تعيين: تنزيل الماضي منزلة الإطـار المرجعي والمعياري الذي به تقاس الظواهر والأفكار والعلاقات والمؤسسات. إنه أكـثر من مجرد زمن؛ هو المشـرع للأزمنة كافـة والمثال الذي عليها أن تـأتـثـره وبه تـأتسي وتقـتدي. وكأنما التاريخ، في هذه النزعة، صنـع مـرة واحدة (في الماضي)، ولم يعد لأزمنته الأخرى إلا أن تكون على مطمار الزمن الأول الصانع! وما أغنانا عن القول إن هذه النظرة إلى الزمن (وإلى الماضي تحديدا) تـفقـر معنى التاريخ، وتعـالن فكرة التقدم عداء جهيرا.

نعـرف، على التحقيق، أن كل أمة وكل ثقافة تحترم ماضيها ولا تتنكـر له، وتفتح معه علاقة تواصل نقدي، هي -قطعا- تحترم نفسها وحاضرها وتفصح عن قـدر من الثـقة بالنفس عالية. غير أن الاحترام والتواصل والاعتراف شيء والتبجيل والتقديس والإيمان الأعشى شيء آخر تماما. وها هنا، بالذات، مشكلة الماضويين أو التراثويين؛ إن نظرتهم التبجيلية إلى الماضي، وسعـيهم الدائب إلى محاولة استنساخه أو تنزيل نموذجه في الحاضر، لا ينطويان -في الواقع- على أي احترام لذلك الماضي بمقدار ما يقدحان في عقـل من يـأتون ذلك التبجيل، ويفضحان فقره الحاد إلى الحد الأدنى من الحس التاريخي.