الذكاء الاصطناعي... كائن رقمي مفكر!
«أنا أفكر، إذن أنا موجود»، هل من الممكن أنْ يُكررَ الذكاءُ الاصطناعي مقولةَ ديكارت الشهيرة؛ ليعلنَ تحرره من هيمنة الإنسان، واستقلاله الفكري ليصبح كائنًا رقميًا مفكرًا بأعلى مواصفات المحاكاة العقلانية والفكرية؟ وإن تحقق هذا سيكون محتفظًا بصبغته الاصطناعية دون درجة الشعور والوجدان «الروحي» المعهود عند البشر. هذه تساؤلاتٌ مفتوحةٌ بين الأوساط العلمية اليوم وكانت فرضية سبق أنْ ساقتها لنا أفلام الخيال العلمي، وقبلها رواياتُ الخيال العلمي الحالمة إلا أننا اليوم نكادُ نقترب من تحققها باقترابنا من الذكاء الاصطناعي العام، بل بدأنا نلمسُ هذه الملامحَ العقلانية لهذا الدماغ الاصطناعي عبر آخرِ صيحاتِ نماذجِ الذكاءِ الاصطناعي مثل ChatGPT وتحديدًا نسخته الرابعة وغيرها من باقي النماذج الذكية المنتشرة التي تعكس حجمَ التنافسِ الدائر وقوته بين الدولِ الصناعيةِ الكبرى والمؤسساتِ الرقميةِ العملاقة؛ لهذا نحن على وتيرةِ سباقٍ رقمي متسارعة لا يتوقع توقفها أو كبح تطورها رغم مطالب خبراء الذكاء الاصطناعي الجادة في تجميدِ هذه التطويرات الرقمية لأجلٍ «مُسمّى» نظرًا لضبابية نتائجها ونتائج انتشارها غير المنضبط وغير المحكوم بقوانين وأخلاقيات واضحة. نعود إلى كائننا الرقمي المُفكر، ولنحاولَ أنْ نرى كيف لهذا الكائن الرقمي -الذي تتسارع عبقريته- صناعة التفكير؛ لتثيرَ رعبَ من عكفَ على تطوير دماغه الرقمي.
قبل أنْ نتعرفَ على آليةِ عملِ هذا الدماغ الرقمي أعيدُ معلومةً تتردد في معظمِ أدبياتِ الذكاءِ الاصطناعي، وهي أنَّ فكرةَ عملِ الذكاء الاصطناعي مستوحاةٌ من الدماغِ البيولوجي عند الإنسان، رغم أنَّ آليةَ عملِ الشبكاتِ العصبية الاصطناعية مشابهةٌ -إلى حدٍ ما- لآلية عمل الدماغ البشري الذي هو الأصلُ قبل ولادة الدماغ الرقمي الذي يُعتبر الفرع إلا أنَّ الغموضَ لا يزال يعتري عددا من التفاصيل البيولوجية لعمل الدماغ البشري. أسس معالجة المدخلات وتحويلها إلى مخرجات عبر الشبكات العصبية «البيولوجية» يمكن فهمه بواسطة مليارات الخلايا العصبية المتصلة بعضها ببعض داخل الدماغ البشري، والتي تعمل على استقبال المدخلات «المعلومات» وإرسال الإشارات الكهربائية والكيميائية فيما بينها لتحويل المدخلات إلى مخرجات يُترجَم بعضُها إلى عملياتٍ تحليليةٍ وعقليةٍ معقدةٍ ما يقود إلى تنفيذِ مهامٍ حساسةٍ في صناعةِ القرارات الحاسمة والأفكار، وكذلك يُترجَم بعضُها إلى أوامرٍ لباقي أعضاء الجسم. هذا عرضٌ مبسّطٌ لمبدأ عملِ الشبكاتِ العصبية البيولوجية، وهناك تفاصيلٌ دقيقةٌ كثيرةٌ لا أرى ضرورةً لعرضِها كون ما يهمنا هو معرفة علاقة عمل الدماغ البيولوجي والدماغ الرقمي؛ ولتقريب فكرة صناعة التفكير الرقمي عند الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي له طُرقه المتعددة، وأهمها تعلّم الآلة «Machine learning» التي يتفرّع منها أحد أهم أنواع الذكاء الاصطناعي قوةً وتعقيدًا، وهو الذي يُعرف بالتعلّم العميق «Deep Learning»، ومن ضمن أنواعه ذات الكفاءة العالية الشبكات العصبية المتكررة «Recurrent Neural Networks» التي تُستعمل «غالبًا» في التعرف على النصوص المكتوبة ومعالجتها، وهذا النوع من بين الأنواع الرئيسة التي تعمل في نموذج المحادثة التوليدي «ChatGPT»، وكذلك من الأنواع المهمة للتعلّم العميق الشبكات العصبية الالتوائيّة «Convolutional Neural Networks» التي تُعرف بقدرتها على التعامل مع الصور والمرئيات، والتي تُعتبر من ضمنِ الأنواعِ الأكثرِ تعقيدًا وكفاءةً بجانب النوع الأول «الشبكات العصبية المتكررة». من المهم أنْ نتناولَ شرح كلٍ من هذه الأنواع التابعة للتعلّم العميق على حدة في مقالات قادمة؛ لمعرفة تفاصيلها المهمة وتطبيقاتها المتعددة، وسيكون تركيزي في هذا المقال على تبسيط آلية التفكير «التحليل» للذكاء الاصطناعي -بشكل عام- وتحديدًا في نوعه الأهم «التعلّم العميق».
طريقةُ التعلّمِ العميق في الذكاء الاصطناعي مع أنواعه المتعددة والمتباينة في استعمالاتها ومستويات تعقيد شبكاتها العصبية تعمل على مبدأ التعلّم أو التدرب على مجموعة من البيانات التي كلما زاد عددها وجودتها زادت سرعة التعلّم وجودته، وهذا التعلّم ما نطلق عليه بالنوع العميق الذي يعمل وفق خوارزميات رياضية متعددة يقود هذا الكائن الرقمي إلى القدرة العمومية، وهي نجاحه في اختبار التعرّف على مدخلات جديدة لم يتعرّف عليها بعد عملية التعلّم، وقدرته على التعامل معها بكفاءة عالية. نبدأ أولا بتحديد ملامح هذا الكائن الرقمي الذي يملك هذا النوع من الخوارزميات التي تمنحه قدرة التعلّم العميق، والذاتية في مراحل لاحقة؛ بحيث أنَّه يتكوّن من ثلاث طبقات رئيسة: طبقة المدخلات حيثُ البيانات وفق أنواعها تدخل إلى هذه الطبقة لتشكّل مجموعةً من الخلايا العصبية «الرقمية» «Neurons»، يأتي بعدها الطبقة المخفية التي يمكن أنْ تكونَ بعددٍ كبيرٍ من الطبقات المخفية ذي الخلايا العصبية الكثيرة حسب درجة تعقيد النموذج العصبي للكائن الرقمي، والذي كلما زاد تعقيده زاد مستوى تعلّمه العميق؛ وبالتالي يزيد من مستوى ذكائه، وهذا التعقيد يتطلب قدرات حاسوبية عالية، والطبقة الثالثة هي المخرجات التي تُظهِر نتائج تحليل المدخلات. ما يهمنا هو معرفة آلية ارتباط المدخلات بالمخرجات، وما يتعلق بهذه الخطوة التي من ضمنها آلية التعلّم التي تدخل في نطاقِ ما نعرفه بالخوارزميات.
عملُ الدماغِ الرقمي الذكي وتفوقه مرهونٌ بنوع خوارزمية التعلّم وآلية عملها، وتعتمد هذه الخوارزمية على آلية تعلّم رياضية تسمح بتعديل الأوزان «Weights» التي تكون موزعةً على جميع الخلايا العصبية، والتي هي الأخرى تسمح بالاتصال الشبكي بين الخلايا ونقل المدخلات وربطها بمخرجاتها المناسبة، وأحد أشهر أنواع خوارزميات التعلّم ما يُعرف بالانتشار الخلفي «Back-Propagation» الذي يُعتبر العاملُ الرئيس والأهم في منظومة التعّلم العميق في الذكاء الاصطناعي. تعمل خوارزمية الانتشار الخلفي وفق أسس رياضية تقوم بالتعديل المستمر للأوزان عبر قياس قيمة الاختلاف بين المخرجات الفعلية والمخرجات المطلوبة «المحددة مسبقًا، والخاصة بمرحلة تعلّم الآلة» بواسطة دالة رياضية تُعرف بدالة التكلفة أو الخسارة «Cost/Loss Function» وتأتي بأنواع متعددة حسب النموذج المستعمل ومهامه. هناك تفاصيل دقيقة وكثيرة من الممل التعمّق فيها لكثرة ما تحويه من تعقيد غير ضروري، ولكن ما يهمنا هو توضيح أنَّ الدماغ الرقمي كائن يتعلّم ويفكر ولو بمستوياته البدائية -حتى وقتنا الحالي- عبر خوارزمية رياضية تمنحه حق التعلّم المستمر؛ لتصنع منه كائنًا رقميًا مفكرًا يواصل التعلّم، ويثبت جدارته في مجالات كثيرة تقترب يومًا بعد يوم في أنَّ تعمَّ كلَ مجالاتِ حياتِنا وأشكالِها لتصلَ به إلى النوع العام «الخارق»، ولعلَّ هذا النوع سيُضفي طابعَ الوعي الاصطناعي عند الآلة؛ لتبيحَ بمكنونات «وجدانية» اصطناعية تخرجه من الشك الرقمي إلى اليقين الوجودي «الاصطناعي»؛ والسؤال في أذهاننا المتوجسة لا يزال يتردد «هل مسيرة هذا الكائن الرقمي ستقوده يوما إلى مرحلةِ العقلانيةِ الديكارتية؛ لتدخله إلى مرحلة الوعي ولو بصبغتها الاصطناعية؟».
