الذكاء الاصطناعي ضيف معرض الكتاب

24 فبراير 2024
24 فبراير 2024

لقد أصبح الذكاء الاصطناعي من أبرز ظواهر العصر الحديث وتقنياته التي مكَّنت المجتمعات من التحوُّل المعرفي والقفز نحو التغيرات الحضارية؛ فمنذ أن قام البريطاني (آلان تورنج) بصنع آلة محوسبة في عام 1935، قادرة على فك الرموز والشيفرات خلال الحرب العالمية الثانية، مهَّد للبحوث اللاحقة التي طوَّرت تلك التقنيات والخوارزميات التي ظهرت بعد ذلك بأشكال أكثر تطوُّرا وتعقيدا، وإلى عام 1956 عندما تمت صياغة المصطلح على يد (مارفن مينسكي، وجون مكارثي)، وحتى وقتنا الحالي، الذي تميَّز بسرعة التطوُّر والتحوُّل لتلك الأشكال والخوارزميات.

إن تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة تدخل ضمن تحولات المجتمعات؛ حيث أثَّرت تأثيرا مباشرا على الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية، فأصبحت التقنيات الذكية وسيلة ونمطا قادرا على إحداث تبدلات جوهرية في سياقات الحياة وأشكال التواصل بين أفراد المجتمعات، بل لقد غيَّر حتى المفاهيم الثقافية وسهَّل في الكثير من الأحيان وسائل العيش، لذلك سنجد أن الدول تتسابق من أجل الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطويرها، لكي تضمن انفتاحا أكبر واستفادة أوسع من مواردها الطبيعية والإنسانية، خاصة عندما أصبحت تطبيقاته قادرة على فهم اللغات الطبيعية، وتجميع البيانات الضخمة وإعادة برمجتها، وظهرت التطبيقات الصناعية، والروبوتات أو المساعدون الآليون وقدراتهم المتطوِّرة، إضافة إلى السيارات ذاتية القيادة وغير ذلك.

ولعل تخصيص ثيمة (الذكاء الاصطناعي) في الفعاليات الثقافية والفنية المصاحبة لمعرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته 28، يأتي ضمن سياق ذلك الاهتمام البالغ الذي توليه عُمان بالتطوُّر والتفاعل الإيجابي مع تقنيات العصر وخوارزمياته؛ فالمتابع لهذه الفعاليات سيجد أن ردهات المعرض وقاعاته تعج بالمناقشات والحوارات القائمة على تأثير الذكاء الاصطناعي بدءا من (دوره في عملية التعليم)، أو (التحولات الثقافية. تأثير الذكاء الاصطناعي في الثقافة والإبداع)، أو (الذكاء الاصطناعي. تحديات وفرص)، أو(الملكية الفكرية والميتافيرس في إطار الذكاء الاصطناعي المعزز)، أو (مستقبل العلوم الاجتماعية في عصر الذكاء الاصطناعي)، أو (دور الذكاء الاصطناعي في نجاح المشروع)، أو (الرواية والذكاء الاصطناعي) وهكذا.

إضافة إلى تلك العناوين التي يتصدرها (الذكاء الاصطناعي)، سنطالع كذلك طغيان المصطلحات التقنية على عناوين الفعاليات عامة من قبيل (الصناعات الإبداعية)، و(الأمن السيبراني)، و(الصناعات الرقمية)، و(التسويق الرقمي)، و(الثقافة الرقمية)، وغيرها الكثير. إن هذه المصطلحات تعبِّر عن اهتمامات المؤسسات والمجتمع عموما بالتحوُّلات التقنية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل خاص؛ لما يُحدثه من تغييرات وما يُقدمه من فرص تُعد مجالات واسعة للانفتاح الحضاري الحديث؛ والذي يقود العالم إلى مرحلة تنموية جديدة.

والحق أن الذكاء الاصطناعي قد مكَّن العالم من إحداث قفزات حضارية في كافة المستويات، وإذا ما تحدثنا عن أثره على المستوى الثقافي مثلا سنجد أنه قد فتح أمام هذا القطاع آفاقا واسعة من التطورات والتحوُّلات على مستوى الأشكال والأنساق والأنواع؛ إذ أن الخوارزميات الواسعة والتطبيقات، خاصة تلك المرتبطة بالذكاء الاصطناعي الضيق (ANI)، فتحت مجالات واسعة لقدرات عالية لمعالجة البيانات، وفهم الأنماط والعلاقات المرتبطة بتلك البيانات سواء أكانت متعلقة بالقطاع بمجالاته المتعددة أو بينه وبين القطاعات الحيوية الأخرى، إضافة إلى الاستنتاجات التي عمَّقت أنماط الإبداع والابتكار في هذا القطاع وفتحت آفاقها، وسهَّلت عمليات التطوير واتخاذ القرارات، لهذا سنجد أن آفاق معرض الكتاب ساحة رحبة للمناقشات التي جعلت من الذكاء الاصطناعي فكرة حاضرة ليس فقط في تلك الفعاليات المرتبطة به مباشرة بل حتى في تلك التي تناقش التطورات الفكرية والفلسفية.

فهذه التقنيات ساعدت في فهم الأنماط الثقافية وتحليلها وتحديد اتجاهاتها، ولعل ما تقدمه من إمكانات للرقمنة والتوثيق والتحليل والحفظ، إضافة إلى استخدامها في الترميم، قد أحدث ثورة في التطوُّر الثقافي؛ من خلال تقنيات المسح الآلي والنمذجة ثلاثية الأبعاد، وتطبيقات الواقع الافتراضي، وإنشاء النسخ الرقمية عالية الجودة، إذ استطاع القطاع الثقافي الإفادة منها في حماية التراث سواء أكان المادي أو غير المادي، والتعرُّف على الوجوه وإعادة ترميمها، ما جعل إنشاء صور للشخصيات التاريخية ممكنا، وكذلك ترميم القطع الأثرية عبر برامج النمذجة، وإيجاد وسائل للمحاكاة، إضافة إلى فتح أنماط جديدة للتواصل عبر الواقع الافتراضي المعزِّز، التي أصبحنا من خلالها نتواصل مع الشخصيات الثقافية التي عاشت منذ مئات السنين.

إن النقلة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي تفتح أمام المجتمعات مجالات واسعة للإبداع والابتكار، ولهذا فإن الكثير من الدول اليوم قد اتخذت منه وسيلة أساسية لتقديم تجارب ثقافية فريدة غير مسبوقة؛ منها مثلا ما عرضه متحف التكنولوجيا في استوكهولم بالسويد يونيو 2023 -حسب ما تناقلته الصحف العربية والأجنبية- وهو عبارة عن منحوتة مستوحاة من أعمال 5 من أبرز النحاتين العالميين هم (مايكل أنجلو. إيطاليا)، و(أوغوست رودان. فرنسا)، و(كاثي كولفيتس. ألمانيا)، و(كوتارو تاكامورا. اليابان)، و(أوغوستا سافاج. الولايات المتحدة)، فهي منحوتة تم ابتكارها عن طريق الذكاء الاصطناعي وأُطلق عليها اسم (التمثال المستحيل)؛ لأنها مستوحاة من أعمال أولئك النحاتين جميعا.

هكذا أثارت نسخة مطورَّة بواسطة الذكاء الاصطناعي من لوحة (الفتاة ذات القرط اللؤلؤي) للفنان النيذرلاندي يوهانس فيرمير، والتي تُعد من أشهر لوحاته التي أنجزها عام 1665م جدلا واسعا، فقد ظهرت النسخة التي أعدَّها المصمم الرقمي جوليان فان ديكن بطريقة تختلف قليلا عن العمل الأصلي، إلاَّ أنه أثار إعجاب الكثير بينما تساءل آخرون ما إذا كانت هذه النسخة تستحق عرضها في متحف رايكسميوزيم بأمستردام، خاصة أنه متحف يضم لوحات فنية كلاسيكية لهذا الفنان النيذرلاندي الشهير. ولعل ما قدمته متاحف باريس من إمكانات الذكاء الاصطناعي ودوره في إحداث التطوُّر جدير بالاهتمام؛ حيث أدخلت العديد من التقنيات الرقمية خاصة تقنية الواقع الافتراضي المعزَّز التي جعلت ليوناردو دافنشي يتحدَّث عن الموناليزا وأعماله الأخرى في متحف اللوفر، والتي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الثقافية.

إن الأمر هنا لا يتعلَّق بالإبداع التقني وقدراته بل إنه ينقلنا إلى مجموعة من الإشكالات التي يثيرها تدخُّل الذكاء الاصطناعي في إيجاد نُسخ مطوَّرة من التراث الإنساني؛ فتلك القدرات التكنولوجية تُحدِث قلقا وتوترا في المجتمعات، بل خوفا على ثقافتها وتراثها وهُوياتها؛ فهذا الانفتاح ومجالات الإبداع والابتكار التي يوسعها الذكاء الاصطناعي تدفعنا إلى تطوير وسائل الأمن والخصوصية، وكذلك الحماية الرقمية للملكية الفكرية لما تمثله من قلق خاصة في المجالات الثقافية والفنية، إضافة إلى قدرة هذه الخوارزميات على إحداث التعديلات والتغيرات حتى في الأصول الثقافية المتمثلة في مواد التراث الثقافي ووثائقه.

ولهذا فإن دول العالم ومنظماته المعنيَّة بالذكاء الاصطناعي، تنشغل بسن التشريعات وأخلاقيات التعامل المنظِّمة لمجالاته وتطبيقاته، بحيث يتم ضبطه بما يتناسب مع الخصوصيات والأمن من ناحية، وحماية حقوق الملكيات الفكرية من ناحية أخرى، ويحافظ على الهُويات والثقافات من ناحية ثالثة، ولعل الاهتمام المتزايد والحوارات والمناقشات، إضافة إلى مجالات الإبداع والابتكار في تلك التقنيات تثري آفاق تلك الحماية وتوسِّع أنماط الاستفادة من التقنيات والفرص الكبيرة التي يتيحها هذا العالم الذكي في المستقبل، فما نراه من إفادة كبيرة لهذه التقنيات في متاحفنا خاصة متحف عمان عبر الزمان، يشير إلى فهمنا العميق ووعينا بأهميتها ومجالات حماية ثقافتنا الإنسانية وصونها.

إن تأصيل ثيمة الذكاء الاصطناعي في معرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته الحالية، يقدِّم فرصا واسعة للتوعية بأهميته، وقدراته الهائلة، وكيفية الاستفادة من تلك الفرص في خدمة المجتمع وتطوير أنماط الحياة. إنها آفاق مستقبلية لحياة أفضل وأكثر إبداعا، لكن علينا دائما الحفاظ على الخط الفاصل الذي يحافظ على هُويتنا وحضارتنا العمانية العربية الأصيلة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة