الدعاية وشيطنة اللاجئين

13 ديسمبر 2022
13 ديسمبر 2022

منذ أيام قليلة تبادل بعض مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لحريق شب في أحد المباني السكنية في ألمانيا، مع تعليق أسفله يقول إن اللاجئين الأوكرانيين أشعلوا النار ودمروا المنزل الذي يستضيفهم صاحبه بطريق الخطأ. وبعد ساعات من نشره على حساب صغير في شبكة «يوتيوب»، انتشر الفيديو انتشارا عالميا واسعا، وعرض في قنوات تلفزيونية عديدة خاصة في روسيا. وبعدها بأيام أكدت الشرطة الألمانية أن الفيديو الذي حمل شعارا مزيفا للصحيفة الألمانية النصفية الشهيرة «بيلد»، كان كاذبا وغير حقيقي، ويستهدف شيطنة اللاجئين الأوكرانيين وإظهارهم وكأنهم ينشرون الفوضى والرعب في ألمانيا التي كانت سخية معهم، واحتضنت أعدادا كبيرة منهم بعد الحرب في بلادهم.

لم يكن هذا الفيديو سوى حلقة في سلسلة جديدة من الدعاية الروسية التي تستهدف هذه المرة قلوب وعقول الأوروبيين المؤيدين لأوكرانيا، من خلال التحريض المباشر على أوكرانيا كدولة، وعلى الأوكرانيين اللاجئين في دول أوروبا والذين يصل عددهم إلى نحو ثمانية ملايين لاجئ، ويشكلون أكبر حركة لجوء داخل القارة العجوز منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

من الواضح أن حملة الدعاية السوداء المناهضة للاجئين الأوكرانيين في أوروبا تدار من قبل شبكة منظمة مترامية الأطراف قد يكون مقرها روسيا، وتستغل عددا كبيرا من المواقع الإخبارية المزيفة وقنوات شبكة «تلجرام» وقنوات «يوتيوب»، لنشر مقاطع فيديو يتم تضخيمها بشكل منهجي من قبل جيوش من حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المزيفة، والمؤثرين الحقيقيين المؤيدين لروسيا، وحسابات وسائل الإعلام الحكومية الروسية على المنصات الاجتماعية الرئيسية تقريبا. ورغم أنه لم يتضح بعد وبشكل قاطع من يقف وراء هذه الحملة بالضبط، فإن كل أصابع الاتهام تشير إلى النظام الروسي باعتباره الوحيد الذي يمتلك الإمكانات والخبرة الكافية لتخطيط وإدارة مثل هذه الحملات الكبيرة.

الواقع أن هذه الحملة الدعائية الروسية الجديدة التي وصفها بعض الخبراء بأنها «أكبر عملية دعاية روسية وأكثرها تعقيدا على شبكات التواصل الاجتماعي» تهدف في المحصلة الأخيرة إلى إثارة الخوف وإحداث الانقسامات في صفوف حلفاء أوكرانيا من الدول الأوروبية الكبيرة، التي تستعد لاستقبال دفعات جديدة من اللاجئين الأوكرانيين بحثا عن الأمان من القصف الروسي من جانب وعن الدفء المفقود في شتاء أوكرانيا القارس بسبب نقص إمدادات الطاقة من جانب آخر.

الخطورة الأكبر في هذه الحملة أنها لا تقتصر على نشر الأكاذيب والأخبار المضللة على شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة التي لا تطبق معايير إدارة محتوى صارمة تُحجم هذه الدعاية مثل: منصة «تلجرام»، وامتدت تدريجيا إلى شوارع بعض المدن الأوروبية الكبيرة لتأخذ شكل كتابة العبارات المسيئة والمحرضة على اللاجئين على جدران المنازل والفنادق التي يقيمون بها، بالإضافة إلى المدارس والمؤسسات العامة. وتستغل شبكات الدعاية المؤيدة لروسيا الغضب الألماني بسبب أزمة الطاقة لتقويض جهود أوروبا لدعم أوكرانيا.

ويشير خبراء الدعاية إلى أكثر من محاولة لدفع الألمان تحديدا إلى طرد اللاجئين الأوكرانيين، وذلك من خلال حملات التحريض التي تشمل الأقوال والأفعال معا، ومنها حرق فندق في أكتوبر الماضي كان مأوى لعدد من الأوكرانيين بإحدى القرى شمال ألمانيا على يد مشعل حرائق ألماني. وقد أثمرت جهود الدعاية الروسية الجديدة سريعا، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة «برتلزمان» الألمانية انخفاض نسبة من يؤيدون استقبال لاجئين جدد من أوكرانيا من 86 بالمائة في مارس الماضي لتصل إلى 74 بالمائة. في الوقت نفسه بدأ بعض السياسيين التعبير علنا عن ضيقهم من اللاجئين، مثل زعيم حزب الديمقراطيين المسيحيين المعارض الذي وصف اللاجئين الأوكرانيين بأنهم «سياح» يستغلون نظام الرعاية الاجتماعية في ألمانيا، وهي الاتهامات نفسها التي تروج لها الدعاية الروسية. وعندما التقى متظاهرون ألمان خرجوا في مدينة «لايبزج» للتعبير عن احتجاجهم على ارتفاع أسعار الطاقة بمتظاهرين أوكرانيين خرجوا ضد القصف الروسي المستمر لبلادهم، وصف المتظاهرون الألمان نظراءهم بأنهم «نازيون»، وهو الوصف نفسه الذي اعتاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إطلاقه على النظام الحاكم في أوكرانيا، ووصف التدخل الروسي في أوكرانيا بأنه «حملة لاجتثاث النازية من البلاد».

وقد بلغت حملة شيطنة اللاجئين الأوكرانيين في ألمانيا حد وقوع جرائم كراهية ضدهم منها نشر عبارات تحرض على قتلهم، وكتابتها على جدران المدارس التي تستقبل أطفال أوكرانيين مثل «اقتل الأطفال الأوكرانيين»، ومحاولات إحراق روضة أطفال. وقد نتج عن مثل هذه الأعمال العدائية انخفاض مراكز استقبال هؤلاء اللاجئين، رغم التوقعات التي تشير إلى استقبال المزيد من اللاجئين خلال الشتاء الحالي.

ويقارن البعض الحملة الروسية الحالية لشيطنة اللاجئين الأوكرانيين بحملة شيطنة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط في 2015. الفارق في الحملتين أن لاجئي الشرق الأوسط كان يتم تصويرهم على أنهم تهديد ثقافي للأوروبيين، بينما يتم تصوير اللاجئين الأوكرانيين بأنهم تهديد لرفاهية الأوروبيين وثرواتهم، وذلك عبر مجموعة من الرسائل المعدة جيدا، التي تربط أوكرانيا بشكل عام بالنازية، وتشوه سمعة قادة أوكرانيين محددين، وتلقي اللوم في مشاكل الطاقة في أوروبا وزيادة معدلات التضخم، على دعمها لأوكرانيا. وتشمل مقاطع الفيديو المزيفة، التي تم استخدامها في الحملة وتم التلاعب بها لتبدو وكأنها تقارير إخبارية لشبكات إعلامية رئيسية، إشارات إلى تورط اللاجئين الأوكرانيين في كل شيء تقريبا، من التخطيط للقيام بهجمات إرهابية، إلى جلب فيروس «جدري القرود» إلى ألمانيا.

قد تبدو الدعاية من متطلبات الحروب الحديثة التي لا يمكن كسبها بالسلاح المادي فقط وتحتاج إلى قوة ناعمة تشمل الآن الكلمة والصورة ومقاطع الفيديو. وقد أسهمت التطورات التقنية والاتصالية الحديثة في تسهيل عمل الحكومات في الدعاية وتوسيع أهدافها التي لم تعد تقتصر على تعبئة الكراهية ضد العدو، والحفاظ على علاقات الصداقة مع الحلفاء، والحفاظ على علاقات الصداقة وتعزيز التعاون مع الدول المُحايدة، وإضعاف الروح المعنوية للعدو، وأضيف لها هدف شيطنة الطرف الأضعف في الحرب، وهم اللاجئون الذين يفرون من ويلات القصف والقتل إلى الدول المجاورة، ثم توقعهم الدعاية في شراك كراهية الشعوب الأخرى لهم والمطالبة بالتخلص منهم.

لقد كان العالم يأمل في أن تسهم المنجزات الإنسانية للعصر الرقمي في الحد من الكراهية، خاصة للاجئين والطبقات المهمشة والضعفاء بوجه عام، الذين لا يملكون من أمرهم شيئًا، لكن نجاح حملات الدعاية وانتشارها عبر كل المنصات الإعلامية وتحولها في النموذج الروسي-الأوكراني إلى أفعال وليس أقوالا فقط، يؤكد أن هذا العصر يظهر لنا أسوأ ما في البشر والبشرية، وهو السعي الدائم إلى نشر الكراهية بين الشعوب. وربما يأتي اليوم الذي نتحسر فيه على زمن الدعاية الوسطي الجميل الذي ظهر أثناء الحرب العالمية الأولى، والذي كان يقتصر كما يقول عالم الدعاية الشهير «هارولد لازويل» على استخدام القصص الوحشية التي يروجها الطرفان المتحاربان. واستطاع الحلفاء من خلالها أن يحققوا نجاحا كبيرا في نشر الكراهية للألمان، من خلال بعض القصص الخيالية مثل قصة أن الجنود الألمان في بلجيكا يقطعون أيدي الأطفال. وكانت هذه القصة وغيرها تمثل جزءا رئيسيا في الخطابات التي كان يُلقيها «رجال الدقائق الأربع» في صالات السينما في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تحوي قصصا مدتها لا تزيد على أربع دقائق. ورغم أن هذه القصص كانت زائفة، فإنها نجحت في دفع الرأي العام الأمريكي إلى الضغط على حكومته لدخول الحرب ضد الألمان. فهل تنجح الحملة ضد اللاجئين الأوكرانيين في دفع حلفائهم الأوربيين إلى طردهم من دولهم وتغيير موازين القوى في الحرب الروسية-الأوكرانية؟؟