التحرر من المواقف المتصلبة
25 نوفمبر 2025
25 نوفمبر 2025
أعني بالمواقف المتصلبة كل تلك الأفكار الجامدة والميول والأحكام الذهنية المتشددة التي تحدد موقف المرء إزاء شيء ما. قلما يحدث هذا في عالم السياسة؛ لأن السياسة تفترض حُسن إدارة الأمور في ضوء الممكنات المتاحة، وهذا شأن الساسة بصرف النظر عن معتقداتهم وقناعاتهم الشخصية. ولكن هذا هو ما يحدث باستمرار في المجادلات والآراء المتباينة بين الناس إزاء الوقائع والأحداث التي تجرى في حياتهم؛ وهذا يحدث حتى على مستوى بعض النُخب المحسوبة على الفكر والثقافة.
هذه المواقف المتصلبة تنتمي عادةً إلى ما يُعرف باسم «النزعة الدوجماطيقية» Dogmatism، وهي في الأصل مصطلح مستمد من كلمة dogma التي تعني مذهب أو معتقد قطعي؛ وبالتالي فإن كلمة «الدوجماطيقية» تعني تلك النزعة في التفكير التي تقوم على الاعتقاد في آراء معينة باعتبارها حقائق مطلقة أو أفكار يتم التسليم بها بحيث لا تقبل شكًا ولا جدلًا، وتكون مُفترضة في البناء عليها.
والواقع أن مفهوم «الدوجماطيقية» هذا شديد الاتساع بحيث نجد له تجليات عديدة على مستوى الفكر وعلى مستوى الدين لدى عموم الناس وخواصهم، حتى إن مفهوم «الدوجماطيقية الدينية» في حد ذاته أصبح يشكل موضوعًا مستقلًا من البحث. وبسبب هذا الاتساع؛ فقد أصبح هذا المفهوم موضوعًا للبحث في الفلسفة وعلم نفس الشخصية، فضلًا عن علم النفس الاجتماعي.
ولا شك في أن هناك خصائصَ مشتركة بين الدوجماطيقية في كل حالة من حالات تجلياتها، ولكن بما أننا لا نستطيع ـ ولا يليق ـ أن نخوض في تفاصيل كل حالة من هذه الحالات في مقال قصير، فإنه من الأجدى بالنسبة إليَّ وبالنسبة إلى القارئ أن أشير هنا فحسب إلى بعض الخصائص المشتركة في المواقف الدوجماطيقية التي أصفها في هذا المقال «بالمواقف المتصلبة»؛ وهذا ما سأحاول إيجازه فيما يلي:
*النظرة الأحادية للأشياء: وأعني بها الميل دائمًا نحو اتخاذ موقف واحد أساسي باعتباره البديل الوحيد بين أمرين. والحقيقة أن النظرة الأحادية ـ فيما أرى ـ تقوم على أساس من نظرة ثنائية في تقسيم الأمور وسائر المفاهيم: كالحق والباطل (في مجال الدين والأخلاق)، وكالحياة والموت، والوجود والعدم (في مجال الميتافيزيقا أو مبحث الوجود في الفلسفة). وبالتالي، فإنه يكون من المفترض أن يتخذ المرء أحد البديلين باعتباره مضادًا للآخر.
*رفض التعددية: وهي خاصية مترتبة بالضرورة على النظرة الأحادية للأشياء، وهي تعني إنكار أو إقصاء الآراء أو وجهات النظر الأخرى التي تخالف آراءنا.
وتلك نزعة تتبدى لدى كل أصحاب المواقف الفكرية التي تدعي أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، كما فصل القول في ذلك الدكتور مراد وهبة في كتابه «مُلَّاك الحقيقة المطلقة». فهذه النزعة تقوم على افتراض أن المعتقدات التي يتبناها الفرد أو الجماعة هي حقائق مطلقة غير قابلة للنقاش أو المراجعة؛ في حين أنه ليست هناك حقيقة موضوعية مطلقة، لأنه ليست هناك «حقيقة في ذاتها»: فالحقيقة تُعد دائمًا نسبية، أي أنها ـ كما تعلمنا من جادامر فيلسوف التأويل الأكبرـ تظل «حقيقة بالنسبة إلينا»، أي حقيقة بالنسبة إلى موجود بشري يعيش في سياق تاريخي ما.
*رفض التأويل: وهي خاصية مرتبطة بما سبق، وهي تعني رفض تفسير النصوص من خلال أية مرجعيات فلسفية أو تاريخية، والأخذ بظاهر النصوص الدينية وغيرها بمعزل عن زمانها وسياقها التاريخي.
والواقع أن المواقف السائدة في كل نزعة دوجماطيقية ـ والتي نصفها هنا بأنها مواقف متصلبة أو جامدة ـ هي مواقف لا تقتصر على المعتقدات المتعلقة بالدين وحسب، بل إنها تمتد إلى مجال الفكر على اتساعه أيًّا كان موضوعه.
والواقع أن كثيرًا من المذاهب الفلسفية قد قامت على فروض مسبقة من دون فحصها أو مراجعتها أو امتحان شواهدها التجريبية، ومن هنا يمكن أن نفهم دور الفينومينولوجيا (أو الفلسفة الظاهراتية) في الفكر المعاصر باعتبارها فلسفة تسعى إلى فهم معنى الظواهر كما تتبدى في الظواهر نفسها، أي في عالم الأشياء ذاتها بمنأى عن أية فروض مسبقة.
وبوسعنا القول إن المواقف الدوجماطيقية المتصلبة تتبدى حتى في مواقف الناس العاديين في الحياة اليومية، وهي غالبًا ما تتبدى في مواقفهم الدينية والأخلاقية وكل ما يتعلق بمنظومة القيم (مثل: قيم الصواب والخطأ، والحق والباطل، والجمال والقبح، وما إلى ذلك). والواقع أن شيوع مثل هذه المواقف المتصلبة في مجتمع ما، هو أمر غالبًا ما يكون مرتبطًا بنظام سلطوي قمعي يكرس النظرة الأحادية للأشياء، ويأبى التأويل ويرفض التفكير النقدي. ولكن مثل هذه الأنظمة لا تدري أنها بذلك تخلق مناخًا حاضنًا لنمو نزعات متطرفة دينيًّا أو اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ وبالتالي فإنها تخلق ما يمكن أن ينقلب عليها.
وإجمالًا يمكننا القول بأن التحرر من المواقف الدوجماطيقية المتصلبة يظل أمرًا مرتبطًا بمدى نضج الفكر والثقافة عمومًا، سواء نظرنا إلى هذا النضج كما يتجلى في حياة الشعوب أو في حياة الأفراد. والأمر هنا يبدو أشبه بحالة التحرر التي تحدث لدى المرء حينما يتجاوز مرحلة المراهقة الفكرية التي يتشبث فيها بآرائه تأكيدًا لاستقلاليته أو لهويته (متوهمًا أن الهوية تعني الثبات على الرأي وعدم التغير). فهذه الحالة تجري أيضًا على مستوى الشعوب مثلما تجرى على مستوى الأفراد.
