الاستقـرار والفوضـى في الثّقافـة

19 يوليو 2023
19 يوليو 2023

يتخطّى فعْلُ ظواهر الفوضى والاستقرار ميادينَه الأساس (السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة) إلى حيث يشمل بتأثيراته ميدان الثّقافة أيضا. في هذا لا تختلف الثّقافة - بما هي بناءٌ من أبنية المجتمع - عن سواها من ميادين الاجتماع الأخرى؛ إذ هي تتلقّى ما يتلقّاهُ غيرُها من ضروب التّـأثيرات الجارية. من المسلّم به أنّ هذا أمرٌ في حكم البداهة بالنّظر إلى أنّ ثقافة مجتمعٍ مّا تعكس أحوال ذاك المجتمع في انتظامها وانتقاض أمورها؛ في استقرارها وفي فوضاها؛ في انسيابيّة حركتها وفي تأزُّمها...إلخ. ولكنّا نَعْلم، في الوقت عينه، أنّ الثّقافة ليست - دائما - منفعلة بمحيطها تتلقّى تأثيراته فحسب؛ إذ هي ليست مرآةً عاكسة بحيادٍ لِما يجري خارجها، وإنّما هي فاعلة في محيطها ذاك وذاتُ تأثيرٍ كبير في تعديل اتّجاهات تيّارات ذلك المحيط. وعليه، حين نسلّم بمبدأ جواز اشتراك الثّقافة مع غيرها من حيِّـزات الاجتماع الأخرى في استقبال آليات الاستقرار والفوضى فيها، لا نتصوّر أنّ علاقتها بغيرها من أبنية المجتمع الأخرى علاقـةٌ مرآويّـة سلبيّة وميكانيكيّة.

نعم، الثّـقافة - مثل السياسة والاجتماع والاقتصاد - عرضة لدورات الفوضى ولحالات الاستقرار، ولكن لا بمعنى أنّه يصيبُها هذا الاستقرار، أو تفتك بها تلك الفوضى، أُسْوةً بما أصاب غيرها من الميادين الاجتماعيّة الأخرى أو نتيجة لِـمَا أصاب هاتيك الميادين؛ ذلك أنّ علاقاتها بظواهر الفوضى والاستقـرار لا تخضع لعلاقات غيرها بتلك الظّواهـر، بل يقـرِّر فيها العالمُ الذّاتيّ الخاصّ بالثّـقافة. هكذا يمكننا أن نلاحظ، مثلا، حالا من الاستقرار في المجتمع متساوقةً مع حالٍ من الفوضى في الثّـقافة، أو أن نعاين كيف تحافظ الثّقافةُ على استقرارٍ فيما الفوضى ضاربة الأطناب في المجتمع تعصف بكلّ شيء فيه. وعليه، في وسعنا أن نقول إنّ أحوال الثّقافة ذاتُ نظامٍ خاصّ ومستقلٍّ، نسبيّا، عن نظام الاجتماع الذي تنتمي إليه، وبالتّالي، فإنّ لها زمنيّة خاصّة داخل زمنيّةٍ عامّة اجتماعيّة. هكذا يصبح جائزا، عندنا، أن نقرأ الاستقرار والفوضى في ثقافةٍ مّا بما هما استقرارُها أو فوضاها، ثمّ بما هما استقرارٌ للمجتمع أو فوضى فيه. أمّا مبرّر هذا النّظر المزدوج فيعود إلى أنّ الثّقافة، وإنْ هي اتّخذتْ لنفسها مساحةً من الاستقلاليّة النّسبيّة عن الواقع الاجتماعيّ، لا يمكنها إلاّ أن تُطلعنا على وجوهٍ من ذلك الواقع، ومنها ما تعلّق بأحوال الاستقرار والفوضى فيه.

ما الذي يمكن أن يعنيه الاستقرار أو تعنيه الفوضى في أيّ ثقافة؛ وهل هناك ميزانٌ لِزِنـةِ أيٍّ منهما وبيانِ ثـقْله فيها، أو هل هناك من علامات فارقة تدلّ على أنّ أيّـا منهما يستبدّ بالثّقافة بحيث يفتح أمامَها أفقا أو يَسُدُّهُ عليها؟ بعبارة أخرى، إذا كانت أوضاع السّياسة والاجتماع والاقتصاد قابلة للإدراك من طريق تحليلِ مؤشّرات وبيانات، فهل تنطوي الثّقافة على شيءٍ من ذلك الذي قد يميط بعضَ اللّثام عن بعض أحوالها؟

ما من شكّ في أنّ المقاييس تختلف لقياس أوضاع الثّقافة عنها في تبيّن أوضاع الميادين الأخرى، خاصّةً السّياسيّة والاقتصاديّة. مثلاً: قد لا يكون للمعيار الكمّي كبيرُ فائدة لكي يُطْلِعَنا على أحوال ثقافةٍ مّا. نعم، قد يفيدنا في بناء فكرة عن حجم المنتوج الثّقافيّ المكتوب، والبصريّ، والسّمعيّ: صعودا أو هبوطا؛ تقدُّمـا أو تراجعا، لكنّه لا يتيح لنا - قطعا - الأدوات القمينة بفحصه من الدّاخل؛ وهي ممّا ينتمي إلى ما يمكن تسميتُه المعيار الكيـفيّ؛ إذْ ليس في وفرة المنتوج الثّقافيّ ما يدُلّ على استقرارٍ في أوضاع الثّـقافة وعن حالٍ من السّواء والتّوازن فيها؛ تماما مثلما ليس في تدهور معدّلات المنتوج ذاك ما يَدُلُّـنا على الاضطراب فيه. بهذا المعنى لا يكون مقياس التبيُّن كميّا، ولا يكون خارجيّا، وإنّما هو مقياسٌ كيفيّ يُفْـتَحَص به موضوعُه من الدّاخـل؛ أي من حيث ما هي عليه دورةُ الإنتاج والفاعليّة في الثّقافة، ومن حيث مقدار ما توفّره للمجتمع رُمَّـةً من موارد تساعده في صناعة التّقدّم.

سنعرّف حالة الاستقرار في الثّقافة - انطلاقا من الملاحظات السّابقة - بأنّها تلك الحال التي تَحَقّق فيها انتظامُ اشتغال الفعل الثّقافيّ والمعرفيّ على نحـوٍ من الانسيابيّة يُتاح بها تطويرُ نظام المعارف والفنون والآداب، من غير أن تعترض نظامَ الاشتغال ذاك كوابح تَحُـدُّ من حركة فعله. ونعرّف الفوضى في الثّـقافة بأنّها تلك الحال من التّأزّم التي تستبدّ بكيانٍ ثقافيّ وتعصف بأساسات نظامه، فتتخَلْخل بمفعولها قواعدُ الفعل الثّقافيّ والمعرفيّ المألوفة، وتستديم هذه الحال بحيث لا تجد الثّـقافةُ لنفسها مَخرجا منها. هكذا مثلا قد نُـلفي الإنتاج الغزير يزداد غزارةً في ظلّ الفوضى الثّقافيّة، بينما نكتشف كيف يمكن للاستقرار الثّـقافيّ أن يقترن بحالٍ من التّراجع في كمّ المنتوج الثّقافيّ. وهكذا، أيضا، يتعزّز الاستقرار بتأثيرٍ من فاعليّة منتوج ثقافيّ كيفيّ، وتدبّ الفوضى إلى الثّـقافة تساوقا مع هبوط معدّل النّوعيّة فيها.

للاستقرار كما للفوضى تجليّات في الثّقافة وفي الحياة الثّقافيّة. حين تتمتّع ثقافةٌ مّا بالاستقرار تبدو عليها علاماتُ التّوازن والسّواء على نحوٍ لا غبار عليه: الثّقة بالنّفس؛ أخلاقيّات الحوار والمناظرة والاعتراف بالآخَـر؛ الإنتاج داخل مشروع ثقافيّ شاملٍ ومتكامل الأبعاد؛ بناء رؤًى استراتيجيّة إلى مستقبل المعرفة والثّـقافة والمجتمع؛ توفير موارد رؤيـويّة ومعرفيّة للمجتمع وللبناء النّهضويّ... إلخ. قد لا تكون هذه الحال شاملةً قطاعات الثّـقافة جميعَها، بل تشمل بعضا منها دون الآخَـر، لكنّ آثارها تمتدّ - مع الزّمن - إلى مجموع النّظام الثّـقافيّ. أمّا حين تُـدَاهِـمُ الفوضى ثقافةً مّا فإنّ أحوالها تنتقض، واتّجاهات حركتها تميل إلى السّير على غير قوائمَ من قواعد ضابطة، فتراها تميل إمّا إلى الانغلاق على الذّات أو إلى التّبعيّة والاستلاب، فتـفقد البوصلة وتفقد معها القدرة على بناء رؤية جديدة إلى نفسها وإلى العالم من حولها، ويضيق صدرُها بغيرها من الثّـقافات فلا ترى إليها إلاّ بنظرة إنكار. والأطمُّ من هذا أنّها تنقسم على نفسها في مواجهاتٍ داخليّة بين تيّاراتها، فيفضي بها الانقسام إلى حالٍ من الحرب الأهليّة الثّـقافيّة بين دعاة فكرةٍ ودعاة أخرى في مسلسلٍ من الاستنزاف الرّمزيّ لقواها...!