الاحتياطي الفيدرالي الأميركي واندفاعه المجنون

25 يناير 2022
25 يناير 2022

تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تحولا تاما، وهو أمر لم نعهده من مؤسسة معروفة منذ فترة طويلة بالتحولات البطيئة المتعمدة في السياسة النقدية. ورغم أن الرسائل الأخيرة التي بثها مجلس الاحتياطي الفيدرالي (لم يفعل أي شيء حقا حتى الآن) لم تكن على ذات القدر من الإبداع الذي كنت أتمناه، فقد أدرك على الأقل أنه يواجه مشكلة خطيرة.

هذه المشكلة هي التضخم بطبيعة الحال. مثل الاحتياطي الفيدرالي الذي عملت به في أوائل سبعينيات القرن العشرين، تحت رئاسة آرثر بيرنز، أخطأ صناع السياسات مرة أخرى اليوم في تشخيص الفاشية الأولية. إن ارتفاع معدل التضخم الحالي ليس عابرا أو مؤقتا أو يمكن التعامل معه باعتباره نتاجا لتطورات مرتبطة بجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). فهو منتشر، ومستمر، وتعززه ضغوط الأجور الناجمة عن إحكام ظروف سوق العمل على نحو حاد غير مسبوق في الولايات المتحدة. في ظل هذه الظروف، كان استمرار الاحتياطي الفيدرالي في رفض تغيير المسار ليشكل خطأ فادحا في السياسة. لكن إدراك المشكلة ليس سوى خطوة أولى نحو حلها. ولن يكون حلها سهلا. لنتأمل هنا بعض الأرقام: يُـقـاس معدل التضخم وفقا لمؤشر أسعار المستهلك الذي بلغ 7% في ديسمبر 2021. مع بلوغ سعر الفائدة الاسمي على الأموال الفيدرالية مستوى الصِـفر فعليا، يُـتَـرجَم هذا إلى سعر فائدة حقيقي على الأموال (المقياس المفضل لتقييم فعالية السياسية النقدية) يعادل 7% بالسالب. وهو مستوى منخفض بدرجة غير مسبوقة.

لم يشهد التاريخ الحديث أن سمح الاحتياطي الفيدرالي لسعر الفائدة الحقيقي على أمواله بالهبوط إلى مستوى 5% بالسالب سوى مرتين، في أوائل عام 1975 ومرة أخرى في منتصف عام 1980. دعمت هاتان الواقعتان التضخم العظيم، عندما ارتفع مؤشر أسعار المستهلك لفترة تجاوزت خمس سنوات بمعدل بلغ 8.6% في المتوسط السنوي.

بطبيعة الحال، لا أحد يعتقد أننا نواجه تتمة لذات السلسلة. لقد ساورني القلق بشأن التضخم لفترة أطول من أغلب الناس، ولكن حتى أنا لا أفكر في هذا الاحتمال. يتوقع أغلب المتنبئين أن يعتدل التضخم على مدار هذا العام. ومع تخفيف اختناقات سلاسل التوريد وزيادة توازن السوق، يُـعَـد هذا افتراضا معقولا.

ولكن فقط إلى حد ما. فلا يزال الاحتياطي الفيدرالي يواجه سؤالا تكتيكيا بالغ الأهمية: ما هو سعر الفائدة الذي يجب أن يستهدفه على الأموال الفيدرالية لمعالجة معدل التضخم الأكثر احتمالا خلال 12 إلى 18 شهرا من الآن؟ لا أحد يستطيع أن يجزم بأي شيء، بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي والأسواق المالية. ولكن هناك أمر واحد مؤكد: في ظل سعر فائدة حقيقي على الأموال الفيدرالية بنسبة 7% بالسالب يصبح الاحتياطي الفيدرالي في حفرة عميقة، وحتى الانخفاض السريع في معدل التضخم لا يستبعد إحكام السياسة النقدية بشكل عنيف لإعادة وضع سعر الفائدة الحقيقي على الأموال الفيدرالية على مسار يتماشى مع تفويض بنك الاحتياطي الفيدرالي في ما يتصل باستقرار الأسعار. للتوصل إلى هذا، يتعين على الاحتياطي الفيدرالي أن يخاطر بتقدير للتوقيت الذي سيرتفع فيه معدل التضخم إلى ذروته ثم يتجه نحو الهبوط. من الصعب دائما تخمين الموعد ــ بل ومن الأصعب حتى معرفة ماذا يعني "الهبوط" حقا.

لكن الاقتصاد الأميركي لا يزال يعاني من فرط النشاط، كما أن سوق العمل، على الأقل عندما تُـقـاس على معدل البطالة الشديد الانخفاض، أصبحت أكثر إحكاما من أي وقت مضى منذ يناير 1970 (قبيل التضخم العظيم مباشرة). في ظل هذه الظروف، أود أن أزعم أن أي صانع سياسات مسؤول لابد وأن يكون راغبا في التحلي بالحذر وعدم المراهنة على رحلة دائرية سريعة وخارقة تعود بالتضخم إلى اتجاهه قبل جائحة كوفيد-19 بمعدل أقل من 2%.

لنتأمل هنا بعض الأرقام مرة أخرى: لنقل إن مسار سياسة الاحتياطي الفيدرالي المتوقع، كما جرى توضيحه من خلال أحدث "رسم بياني إحصائي"، صحيح، وأن البنك المركزي يأخذ سعر الفائدة الاسمي على الأموال الفيدرالي من الـصِـفر إلى نحو 1% بحلول نهاية عام 2022. أضف إلى هذا تقييما حكيما لمسار خفض التضخم ــ ليس بطيئا جدا وليس سريعا للغاية ــ يتوقع عودة تضخم مؤشر أسعار المستهلك في نهاية العام إلى منطقة 3% إلى 4%. هذا من شأنه أن يترك سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية في المنطقة السلبية عند مستوى 2% بالسالب إلى 3% بالسالب في نهاية هذا العام. هنا يكمن الشَـرَك في كل هذا.

في دورة التيسير الحالية، دفع الاحتياطي الفيدرالي أولا سعر الفائدة الحقيقي على الأموال الفيدرالية إلى الانخفاض إلى ما دون الصِـفر في نوفمبر 2019. وهذا يعني أن السعر المحتمل بنسبة 2% بالسالب إلى 3% بالسالب في ديسمبر 2022 يصادف فترة تمتد 38 شهرا من التسهيلات النقدية غير العادية، والتي بلغ سعر الفائدة الحقيقي على الأموال الفيدرالية خلالها 3.1% بالسالب في المتوسط.

يمثل المنظور التاريخي أهمية واضحة هنا. لدينا ثلاث فترات سابقة من التسهيل النقدي غير العادي تستحق الملاحظة: في أعقاب فقاعة الدوت كوم قبل جيل مضى، أدار الاحتياطي الفيدرالي تحت قيادة ألان جرينسبان سعر فائدة حقيقيا بلغ في المتوسط 1.1% بالسالب طوال 31 شهرا متتاليا. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، تعاون بن برنانكي وجانيت يلين للحفاظ على سعر فائدة حقيقي على الأموال الفيدرالية بلغ في المتوسط 1.9% بالسالب لمدة 62 شهرا. ثم مع استمرار ركود ما بعد الأزمة، اشتركت يلين مع جيروم باول لمدة 37 شهرا للإبقاء على سعر الفائدة الحقيقي عند مستوى 0.9% بالسالب. الواقع أن الاحتياطي الفيدرالي اليوم يلعب بالنار. إن سعر الفائدة الحقيقي على الأموال الفيدرالية بنسبة 3.1% بالسالب في ظل التسهيل المفرط الحالي لهو أكثر من ضعف المتوسط الذي بلغ 1.4% بالسالب خلال الفترات الثلاث السابقة. ومع ذلك، تُـعَـد مشكلة التضخم اليوم أشد خطورة بأشواط، حيث من المرجح أن تبلغ الزيادات في مؤشر أسعار المستهلك 5% في المتوسط من مارس 2021 إلى ديسمبر 2022، مقارنة بمتوسط بلغ 2.1% والذي ساد في ظل الأنظمة السابقة لأسعار الفائدة الحقيقية السلبية. كل هذا يسلط الضوء على ما قد يكون أخطر رهان سياسي قام به الاحتياطي الفيدرالي على الإطلاق. لقد ضح تحفيزا غير مسبوق إلى شرايين الاقتصاد خلال فترة كان فيها التضخم أعلى من ضعف الوتيرة التي كان عليها خلال تجاربه الثلاث السابقة مع أسعار الفائدة الحقيقية السلبية.

لقد تعمدت ترك مقارنة رابعة: سعر الفائدة الحقيقي على الأموال الفيدرالية بنسبة 1.7% بالسالب في عهد بيرنز في أوائل السبعينيات. ونحن نعلم الآن كيف انتهى ذلك الحدث. كما تركت أي ذِكر للتوسع العنيف بذات القدر في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي العمومية. في الوقت الحالي، فات أوان التحذير من أن الاحتياطي الفيدرالي أصبح "وراء المنحنى". الواقع أن الاحتياطي الفيدرالي متأخر عن المنحنى إلى الحد الذي يجعله عاجزا حتى عن رؤية المنحنى. ويبدو أن رسومه البيانية الإحصائية، ليس فقط لهذا العام بل وأيضا لعام 2023 ثم لعام 2024، لا تعبر بإنصاف عن مدى الإحكام الذي يجب أن تكون عليه السياسة النقدية في الأرجح مع اندفاع الاحتياطي الفيدرالي لإعادة التضخم إلى نطاق السيطرة. في ذات الوقت، تنتظر الأسواق المالية نوبة صحيان شديدة الخشونة.

• ستيفن س.روش عضو هيئة التدريس بجامعة ييل والرئيس السابق لمورغان ستانلي آسيا