الإصلاح التشريعي والإعلامي
كثيرا ما يوجه النقد القاسي إلى وسائل الإعلام العربية، باعتبارها وسائل ضعيفة ومحدودة الأثر، وتابعة للحكومات. وكثيرا ما تتهم تلك الوسائل من قبل الباحثين من جهة، والجمهور من جهة أخرى بالعجز عن مجاراة ومنافسة وسائل الإعلام العالمية، والفشل في إرضاء الجمهور العربي الذي هجرها إلى وسائل الإعلام الإقليمية أو العالمية، بالإضافة إلى عدم القيام بأداء وظائفها الأساسية على أكمل وجه، خاصة الوظيفة الرقابية على مؤسسات المجتمع المختلفة، والتنبيه إلى المخاطر والأخطاء وكشف الفساد.
وأحيانا ما يأخذ الحماس الزائد بعض هؤلاء النقاد فينسب إلى وسائل الإعلام المسؤولية عن التراجع العربي الواضح على جميع الأصعدة، وحالة التخبط والنزاعات والحروب التي تعيشها بعض المجتمعات العربية، بالإضافة إلى تدني مستوى الحريات الأساسية في العالم العربي. ولا يتذكر هؤلاء حقيقة أن التراجع الإعلامي العربي هو عرض لمرض مزمن أصاب الحياة السياسية العربية، وأن وسائل الإعلام كانت على الدوام ضحية سياسات عامة، وتشريعات وضعت واستمرت استنادا إلى مخاوف غير مبررة من إطلاق حرية الصحافة، تقوم على أن هذه الحرية تشكل خطرا على الأنظمة والشعوب.
لا يعاني الإعلام العربي في أغلبه عجزا في الإمكانات المادية والتكنولوجية والبشرية التي أصبحت متوافرة بشكل كبير بفضل الوفرة المالية وقيام مدارس تعليم الإعلام والصحافة في كل الدول العربية تقريبا، ولكنه يعاني من أزمة تشريعية تجعله يأتي في مراتب متأخرة على الدوام في التصنيفات الدولية لحرية الإعلام والصحافة. ولعل هذا ما يدفعنا إلى القول: إن تراجع الإعلام العربي يعود في حقيقته إلى القيود التشريعية الكثيرة التي تكبل بها الأنظمة العربية وسائل الإعلام، سواء كانت هذه القيود منطقية أم غير منطقية. وبالتالي فإن ما ينقص هذا الإعلام لكي ينطلق ويسهم بشكل حقيقي في التنمية، هو الإصلاح التشريعي الذي يعيد الاعتبار لقيم الحرية والدقة والموضوعية والتوازن الإعلامي، ويدفع بهذه الوسائل إلى تصدر المشهد الإعلامي الإقليمي على الأقل ومن ثم استعادة ثقة القراء والمستمعين والمشاهدين فيها.
في تقديري أن الخطوة الأولى للإصلاح التشريعي في مجال الإعلام يبدأ بمراجعة قوانين المطبوعات والنشر والصحافة والإعلام العربية، وتخليصها من القيود الكثيرة التي تكبل وسائل الإعلام وتجعلها عاجزة عن اللحاق بركب التطور الإعلامي الكبير الذي يشهده العالم، وعلى رأسها قيود إصدار الصحف وإنشاء محطات الإذاعة والتلفزيون والمواقع الإلكترونية.
ولعل أول ما يُلاحظ على القيود التي تفرضها الدول العربية على حرية إنشاء الصحف ووسائل الإعلام هو أنها لا تقتصر على الصحف الدورية التي تصدر في مواعيد منتظمة وتحت اسم واحد. فقد اتجه المشرع العربي في بعض الدول إلى توسيع دائرة التقييد ليشمل كافة المطبوعات بصرف النظر عن دوريتها أو طريقة عملها، والعبرة فقط بطرح المطبوع للتداول الجماهيري. وبالتالي أخضعت هذه التشريعات كافة المطبوعات التي تصدر باسم واحد وبصفة دورية كالجرائد والمجلات ووكالات الأنباء، وحتى المواقع الإعلامية الإلكترونية، على سبيل المثال لا الحصر، لقيود واحدة.
وتستخدم بعض القوانين العربية تعريفا جامعا حتى تشمل قيود الإصدار والقيود الأخرى، جميع أنواع المطبوعات من كتب ونشرات دورية ومجلدات ورسوم ومنقوشات مصورة وبطاقات بريدية مزينة بالرسوم ومعلقات وخرائط جغرافية ونشرات وتقاويم ومجلات وغيرها. وتبالغ تشريعات أخرى في تعريف المطبوع الذي يخضع لقيود الإصدار ليشمل كل مطبوع دوري مكتوب تنشر فيه، كيفما كانت لغته المستعملة، أخبارا أو أفكارا أو آراء أو معلومات أو صورا أو رسوما، تتخذ شكل نص أو رمز أو صور بيانية معينة أو غيرها ويصدر على فترات زمنية منتظمة. كما تمارس أيضا بواسطة صحيفة إلكترونية.
وتتوسع تشريعات عربية أخرى في تعريف الأنشطة الإعلامية التي يحكمها القانون لتشمل كل نشر أو بث لوقائع أحداث أو رسائل أو آراء أو معارف، عبر أية وسيلة مكتوبة أو مسموعة أو إلكترونية، وتكون موجهة للجمهور أو لفئة منه. ولا تشترط تشريعات بعض الدول أن يصدر المطبوع الخاضع للقانون باسم واحد وبصفة دورية وفي مواعيد منتظمة، بل يخضع لذات القيود حتى ولو كان يصدر في مواعيد غير منتظمة.
وعلى هذا النهج سارت كافة التشريعات العربية المتعلقة بالمطبوعات والنشر والصحافة والإعلام. وبالتالي فإن كافة المطبوعات التي تصدر باسم واحد وبصفة دورية منتظمة أو غير منتظمة تخضع للقيود التي تفرض على الصحف سواء كان الإصدار في شكل كتاب أو نشرة ما دام المقصود به طرحه للتداول وجعله بأي وجه من الوجوه في متناول الجمهور بمقابل أو بدون مقابل.
ومن أبرز القيود التي تخضع لها المطبوعات العربية شرط الترخيص المسبق. فقد اشترطت غالبية تشريعات المطبوعات والنشر في الأقطار العربية الترخيص المسبق كشرط لإصدار المطبوعات التي تصدر بصفة دورية وباسم واحد كالصحف والمجلات والنشرات. ورغم أن تشريعات بعض الدول قد اكتفت بما أسمته «التصريح المسبق» أو «الإخطار» فإنه لا يختلف في الواقع كثيرا عن نظام الترخيص السائد في باقي البلدان، إذ يتوقف منح التصريح أو الاكتفاء بالإخطار على مشيئة الجهة الإدارية وإرادتها.
ويبدو نظام الإخطار في الدول العربية التي تأخذ به أقرب إلى الترخيص. إذ يمنح هذا النظام الجهة الإدارية حق قبول أو رفض الإخطار بالإضافة إلى الحق في النظر في تظلمات من يرفض إخطاره وإصدار قرارات فيها تكون نهائية ولا يجوز الطعن فيها أمام المحاكم.
وتشير مراجعة القيود المفروضة على إصدار الصحف وإنشاء الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية الإعلامية في العالم العربي أن الترخيص بإصدار الصحيفة والسماح لها بالاستمرار في الصدور مرتهن في الأساس برغبة الحكومات، ولا يعبر عن إيمان بحرية الصحافة. وتقصر غالبية هذه الحكومات هذا الحق على مؤيديها وممن لا تخشى من معارضتهم لها. ولعل هذا ما أدى في فترات كثيرة إلى بروز ظاهرة الصحافة العربية المهاجرة التي تصدر من خارج الدول العربية وتوزع داخل الوطن العربي، إلى جانب ظاهرة القنوات التلفزيونية الفضائية العربية التي تعمل من خارج المنطقة العربية نظرا لاستحالة الحصول على رخصة بالبث التلفزيوني الأرضي في غالبية الدول العربية. وكثيرا ما تتعرض تلك القنوات إلى هجوم حاد من وسائل الإعلام العربية ويتم وصفها بأنها قنوات معادية. ولا يمكن التخلص من هذه الظاهرة سوى بإطلاق حريات الإصدار وإنشاء وسائل الإعلام وتحويل المجتمعات إلى سوق حرة للأفكار تتنافس فيها وسائل الإعلام على تقديم خدمات إعلامية للجمهور وتطرد فيها السلع (الوسائل) الجيدة، السلع (الوسائل) الرديئة.
لسنا بالطبع ضد تنظيم العمل الإعلامي من خلال القوانين، بل إننا كثيرا ما نطالب أن يسير التنظيم القانوني للإعلام جنبا إلى جنب مع التنظيم الذاتي الذي تقوده جمعيات ونقابات الصحفيين لتعزيز حرية الإعلام وتحديد واجبات وحقوق الصحفيين، ومع ذلك فإن علينا أن ندرك قبل أن يمضي الوقت أننا نعيش مرحلة ما بعد الرقمية، ولم يعد بالإمكان التحكم في وسائل الإعلام وتقييد ظهورها والتحكم فيها، وبالتالي فإن إصلاحا تشريعيا لقوانين المطبوعات والنشر والصحافة والإعلام أصبح ضروريا لتحقيق السيادة الإعلامية على أراضينا، وإشباع حاجات المواطنين العرب من المعلومات والأفكار والوسائل الإعلامية.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
