الإسلام في أوروبا... قلقُ إسرائيل أم ورقتها الجديدة؟
في انعكاس جديد للقلق الوجودي الصهيوني، نشر رئيسُ وزراء الكيان الإسرائيلي المحتل السابق «نفتالي بينيت» تصريحا على منصة «أكس» كتب فيه أن عدد المسلمين الأطفال في بروكسل يصل إلى 50٪، وإلى 40٪ في كلٍ من أمستردام وفيينا ولندن، وأن هذه النِسب تعكس نمو عدد المسلمين -خصوصا في فئة الأطفال- في هذه المدن الأوروبية الكبيرة؛ فيعتبرها مصدرَ قلق لإسرائيل وتحوّلا له تبعاته العالمية والدراماتيكية على إسرائيل، ولعلّنا مع تصريحات «بينيت» نتذكّر ما يردده بعضُ حاخامات إسرائيل وبعضُ وزرائها المتطرفين عن أطفال غزة والتحريض على قتلهم لأنهم -في نظرتهم الإجرامية- أعداءُ إسرائيل في المستقبل. لست بصدد تأكيد دقة نسبة الأطفال المسلمين في أوروبا التي ذكرها «بينيت»؛ فنحن معتادون على تزييفهم للحقائق، فلا أجد مصدرا واحدا يمنح هذه النسبة للمسلمين في أوروبا؛ إذ تقول أغلب الإحصاءات إن نسبة المسلمين في أوروبا لا تتجاوز 7٪، مع توقعات لزيادة النسبة إلى 14٪ بحلول عام 2050 وفقَ تقريرٍ نشره مركز «Pew Research»، ورغم هذه النِسب -غير الكبيرة-؛ فإن معظم مراكز الدراسات السكانيّة -مثل «Pew Research، Cambridge University Press، Eurostat»- تُجمع أن الإسلام الأسرع نموا وانتشارا في أوروبا نتيجةَ زيادة مواليد المسلمين وهجرة المسلمين المستمرة إلى أوروبا، ونزيد مع هذه الأسباب تضاعف عدد معتنقي الإسلام من الأوروبيين -وفقَ المشاهدات الموثّقة التي نراها في مرئيات وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
نعود إلى القلق الوجودي الإسرائيلي الذي انتقل هذه المرة من الخطر الديموغرافي في الداخل الإسرائيلي المحتل عبر فقدان الطابع اليهودي للدولة -كما أوضحنا في مقالنا السابق- إلى وجود الخطر الديموغرافي الخارجي وتحديدا في أوروبا؛ فتعتبر إسرائيلُ أوروبا حاضنتها المهمة بجانب داعمها الرئيس والأهم «أمريكا»، ولهذا ترى أن زيادة عدد المسلمين في هذه القارة البيضاء الداعمة للمشروع الصهيوني يمكن أن يقلب الطاولةَ على إسرائيل مستقبلا عن طريق التغييرات الديموغرافية والسياسية ونمو التيارات المضادة لإسرائيل ووجودها، ونحن هنا لا ننكر هذا التحوّل الملحوظ في أوروبا الذي ينطلق من الشارع الشعبي ويقتحم بكل قوة الأروقة السياسية الأوروبية ومراكز صناعة القرار فيها كما رأينا كثيرا -مؤخرا- من القرارات الأوروبية -الحكومية الرسمية- المناوئة للسلوك السياسي والعسكري الإسرائيلي والمؤيدة لوجود دولة فلسطينية مستقلة، ولكننا لا نملك دليلا أن نقول إن هذا التحولَ مقرونٌ بالنمو الإسلامي في أوروبا؛ فعدد المسلمين ما زال أقلية مع الهيمنة المسيحية واللا دينية، ولهذا نردد ما سبق أن قلناه في مقالات سابقة إن الوعي الإنساني بعمومه يرتفع ولم يعد متأثرا بالسردية الصهيونية التي سُوّقت في المجتمعات الغربية عبر عقود طويلة بوسائل شتى؛ ففي ظل التطور الرقمي والبيانات المفتوحة -بأنواعها المكتوبة والمرئية- لم يعد الإنسان -خصوصا الغربي والأمريكي- أسيرا لإعلامه المسيّس المحكوم من قبل المجموعات الصهيونية التي تتحكم في أعمدة الاقتصاد الغربي وإعلامه، ولعلّنا مع فضائح «البي بي سي» المتكررة وانحيازاتها غير المبررة مع الكيان الإسرائيلي والضغوط التي تُمارس على موظفيها وإعلاميها خير دليل على ذلك.
بجانب ما يمكن لنمو عدد المسلمين في أوروبا وتأثيره المحتمل أن يُحدثه -مستقبلا- على بعض مفاصل السياسة وقراراتها؛ فإنني لم أعد أرى لهذا النمو التأثير الكبير الذي يمكن أن يُحدثه في التوجهات السياسية في أوروبا؛ حيث يكمن التعويل على الوعي الإنساني العالمي -بجميع أطيافه الدينية والعرقية- الذي كشفت له قضيةُ فلسطين وجرائمُ الحرب في غزة عن حقيقة الصهيونية وأذرعها الأخطبوطية في الغرب وأمريكا؛ فقاده إلى ممارسة الضغط على حكوماته المتواطئة مع الكيان الإسرائيلي وجرائمه، وهذا ما يبرر صوت «بينيت» القلق الذي اضطر فيه إلى المجاهرة بالكذب في تحديد نسبة عدد المسلمين في الغرب محاولةً منه إلى استعمال آخر ما بقي من أوراق يُعوّل عليها في حفظ العهود بين الصهيونية والحكومات الغربية التي التزمت معظمها -بعد الحرب العالمية الثانية- بأن تكون ربيبة هذا الكيان وحامية وجوده؛ فيحاول «بينيت» شيطنة هذه الحكومات بأسلوب يدعو إلى الضحك كونه يردد سردية كيانه المجرم الذي يرى الأطفال خطرا وجوديا مستقبليا على أوروبا وكيانه؛ فكأنه يؤمن بضرورة قتلهم أو تغيير ثقافتهم الإسلامية على غرار تصريحات حاخاماته وأفراد حكومة كيانه، ولكن ما يمكن أن نفهمه من تصريحات «بينيت» أنه يقصد التوجّه الغربي الصاعد المضاد للمشروع الصهيوني؛ فيتوجس خيفة من مستقبل أكثر عداء لكيانه؛ ليعتقد أن هذا التوجّه يحمل بصماته الإسلامية أو أنه متأثرٌ بالقيم الإسلامية المعادية للتطرف الصهيوني.
في سياق تصريحات رئيس وزراء كيان إسرائيل السابق، نسترجع مشهدَ زيارةِ مجموعة ممن يزجّهم بعضُ الناس في خانة «الدعاة والأئمة المسلمين» من عدة دول أوروبية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة الذين قدموا بدعوة من الكيان نفسه في محاولة الكيان لتوضيح أنه ليس في حرب مع الإسلام المعتدل -الذي يشترط ولاءه للصهيونية-، وهذا ما أثبته الوفد «المتأسلم» بأنه صهيوني مؤيدٌ للكيان الإسرائيلي وحربه على من يطلق عليهم (المتطرفين الإسلاميين)، وكذلك تأتي هذه الزيارة لتكون بمثابة محاولة الكيان الصهيوني مراجعة مسار الإسلام في الغرب ودفعه نحو التقاطع مع مبادئه الصهيونية أو على الأقل غير المناوئة لها؛ وكأنه وجد عبر هذه المجموعة المنبوذة من قبل المجتمع الإسلامي الغربي ضالته في محاولة كسب هذا الرهان الخاسر، وهذا ما يستدعي استرجاع ذاكرتنا لمقال للكاتب زاهر المحروقي -نشره في جريدة عُمان- بعنوان «الصلاة في المدارس وتوصيات مؤسسة راند» يشير فيه إلى الخوف الأمريكي والغربي المستمر من الممارسات الإسلامية مثل ظاهرة الصلاة وتطبيقها في المدراس وتأثيرها المحتمل على صحوة الجيل المسلم، وهذا ما يذكّرنا بأساليبهم الكثيرة والمتعددة في كبح النمو الإسلامي وانتشاره في أوروبا منها عبر فرضيات اليمين الغربي المتطرف مثل أطروحة «أوروبيا» «Eurabia» التي يزعم بواسطتها أنه يحمي الغرب من المؤامرة الإسلامية وفرض ثقافتها على المجتمع الغربي وأسلمته، ونجدها في توصياته المستمرة للدول الإسلامية فيما يخص تعديل أو حذف المناهج الإسلامية في المدارس، وكذلك طرقه التشويهية للإسلام بواسطة صناعة خلايا الإرهاب ودعمها مثل «داعش» وغيرها وتغطيتها بغطاء إسلامي مزّيف بغية كبح الصعود الإسلامي القويم الذي يمكن أن نراه بصميم أركانه أنه ذو قيم إنسانية وأخلاقية داعية إلى العدالة والرحمة والمساواة، وهذا ما يُفقد الصهيونية قيمها ويركس قوتها.
لا أظن أن مثل هذه التصريحات الهزيلة الفاقدة للموضوعية والمصداقية يمكن أن تدغدغ عواطف الغرب الممتلئ حقدا على الكيان الإسرائيلي وجرائمه؛ فباتت السردية الصهيونية هدرا إنشائيا لا يلتفت إليها المجتمع الإنساني في العالم بجميع مشاربه الدينية والثقافية، وتقلصت حظوظه مع وسائل الإعلام الداعمة له التي لم تجد من يؤمن بمصداقيتها الإعلامية، ونحن هنا -مرة أخرى- مع أوراق صهيونية هزيلة تُحرق؛ لتثبت نهاية وشيكة للظلم.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
