الأمريكيون متشائمون جدا من المستقبل

07 يناير 2024
07 يناير 2024

ترجمة: قاسم مكي -

بداية العام الجديد تكون في العادة وقتًا للتفاؤل. لكن إذا ألقيتَ نظرة على استطلاعات الرأي التي أجريت في الشهور القليلة الماضية ستجد أن أعدادا كبيرة ولافتة من الأمريكيين (أحيانا ثلاثة أرباع من استُطلِعت آراؤهم) تعتقد أن أمريكا في المسار الخاطئ. هذا الإحساس الطاغي باليأس يثير الحيرة لأني لا أجد بيانات موضوعية كافية تدعمه.

حقق اقتصاد الولايات المتحدة نموا مذهلا بلغ معدله 5.2% في الربع الثالث من عام 2023. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل معدل النمو في العام المنقضي 2.1%. وهو أفضل كثيرا من معدلات النمو في الاقتصادات الغربية المتقدمة الأخرى كألمانيا وكندا وبريطانيا. كما يهبط التضخم بشدة فيما ترتفع الأجور الحقيقية ويزدهر التوظيف في القطاع الصناعي. ومن الصعب أن تجد بلدًا آخر تشير فيه العديد من المقاييس الاقتصادية إلى أن الأمور تمضي في الاتجاه الصحيح.

بل الصورة الأوسع نطاقًا أكثر إيجابية. فكما كتبتُ في العدد الحالي لمجلة «فورين افيرز» ظلت الولايات المتحدة تتفوق على منافساتها في مؤشرات أساسية ومتنوعة لفترة من الزمن. وفي تحليل للطرائق العديدة التي يمكن بها مقارنة اقتصاد الولايات المتحدة باقتصاد أوروبا وجدت صحيفة الفاينانشال تايمز أن الولايات المتحدة قياسا بنمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد ظلت تتفوق على بريطانيا ومنطقة اليورو على مدى 20 عامًا وقزَّمت اقتصادات إسبانيا وفرنسا وإيطاليا.

يهيمن قطاع التقنية في الولايات المتحدة على العالم على نحو لم يماثلها فيه أي بلد آخر على الإطلاق. فقيمة أسهم شركات التكنولوجيا العشرة الأولى في الولايات المتحدة الآن أكبر من القيمة الكلية لأسواق أسهم كندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا مجتمعة. والولايات المتحدة أكبر منتج للنفط والغاز في العالم. ولديها التركيبة السكانية الأمثل صحيا لأي بلد متقدم اقتصاديا وتستوعب حوالي مليون مهاجر شرعي سنويا. وهذا ما يضمن استمرار نمو السكان في الولايات المتحدة فيما يُتوقع أن تشهد أوروبا واليابان انخفاضا تدريجيا في أعداد سكانها.

العالم يرى ما لا يراه الأمريكيون (بالنسبة لأداء بلدهم) فأحدث استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث حول هذا الموضوع يكشف أن الولايات المتحدة تُعد أفضل من الصين في 22 بلدا من جملة 24 بلدا. وعند طرح سؤال حول أيهما يسهم في السلم والاستقرار في العالم الولايات المتحدة أم الصين؟ كان فارق التفضيل بينهما ضخما في البلدان الآسيوية المهمة. ففي اليابان بلغت النسبة 79% مقابل 14% وكوريا الجنوبية 74% مقابل 13% وفي الهند 70% إلى 33%. وكل هذه النسب كانت لصالح واشنطن.

أنا أعلم أن العديدين سيشيرون إلى الأزمات العالمية العديدة الناشبة سواء الانسداد الدموي في أوكرانيا أو الحرب المأساوية في غزة أو الأخطار التي تحدق بتايوان. وسيقرُّ آخرون بالجوانب الإيجابية لكنهم سيحاجُّون بأن السياسة الداخلية للولايات المتحدة تطغى عليها كلها. فمجتمعنا المستقطَب بشدة ستصيبه بالشلل قضايا المحاكم الوشيكة وانتخابات غير مألوفة قادمة وأزمة دستورية محتملة حول نتائجها.

كل هذا صحيح. أمريكا لديها مشاكل خطيرة. هل هنالك بلد ليس كذلك؟ لكن سبق لها أن اجتازت مثل هذه الأزمات من قبل. وأنا على ثقة أنها ستفعل ذلك مرة أخرى.

في الصيف الماضي كتبت المرشحة الجمهورية للرئاسة نيكي هيلي في تغريدة «هل تذكرون أيام نشأتكم؟ هل تذكرون كيف كانت الحياة بسيطة؟ وكيف كان الإحساس بها بسيطا؟» كانت هيلي تستنسخ الرسالة المركزية لدونالد ترامب والتي فحواها أنه سيجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.

إذن دعونا نعود إلى الماضي وإلى تلك الأيام المثيرة قبل خمسين عامًا وتحديدًا إلى عام 1974.

كانت الولايات المتحدة قد تعرضت لتوها إلى أول هزيمة عسكرية كبرى لها في فيتنام. وكان الاعتقاد السائد على نطاق واسع أن الاتحاد السوفييتي يهاجم في أرجاء العالم.

كما استقال المستشار الألماني بعد فضيحة تجسس (تقدم فيلي برانت مستشار ألمانيا وقتها باستقالته في مايو 1974 بعد اتهام مساعد شخصي له بالتجسس لصالح ألمانيا الشرقية - المترجم).

وكانت إسبانيا لا تزال في صدمة من اغتيال رئيس وزرائها بواسطة مسلحي الباسك (اغتالت منظمة إيتا التي تسعى إلى فصل إقليم الباسك لويس كاريرو بلانكو رئيس وزراء إسبانيا بواسطة سيارة مفخخة في 20 ديسمبر 1973 - المترجم).

وكانت إسرائيل بالكاد قد تعافت من حرب 6 أكتوبر التي كادت أن تقضي عليها وأجبرت رئيسة وزرائها جولدا مائير على الاستقالة.

أيضا رفعت المقاطعة النفطية العربية (بعد حرب رمضان) سعر النفط إلى ثلاثة أضعاف. ونتجت عن ذلك ظاهرة جديدة اتسمت باقتران النمو البطيء وارتفاع التضخم أطلق عليها اسم «التضخم الجامح».

داخليا كانت الولايات المتحدة إبان السبعينيات لا تزال تترنح من أعمال الشغب التي اندلعت في سنوات الستينيات وكان إجبار الطلاب على الالتحاق بمدارس مختلطة عرقيا يفكك المجتمعات المحلية. ولا ننسى حادثة ووترجيت التي قلبت النظام السياسي في الولايات المتحدة رأسا على عقب (فضيحة التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى ووترجيت عام 1972 والتي كان رئيس الولايات المتحدة الجمهوري ريتشارد نيكسون المتهم الرئيسي فيها) فلكي ينجو نيكسون من المحاكمة اضطر إلى الاستقالة في أغسطس 1974. وتلك كانت أول حادثة من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة.

آه نعم. إنها تلك الأيام البعيدة السعيدة. عندما كانت الحياة أكثر بساطة. (يسخر الكاتب من تغريدة نيكي هيلي. فالماضي كان يعج بالمشاكل في نظره وعلى نحو ما سرد في المقال - المترجم).

الحقيقة هي أن الولايات المتحدة لديها القوة والقدرة على علاج أزمات اليوم ربما بأفضل مما كانت تملك في الماضي. لكنها بحاجة إلى استعادة قدرتها على النظر إلى الأشياء من منظور محدد. والأهم من كل ذلك استعادة الثقة في قدراتها الهائلة.

فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشؤون الخارجية على شبكة سي إن إن.

عن صحيفة واشنطن بوست