الأرشيف.. والكتابة التاريخية

01 يوليو 2023
01 يوليو 2023

عرفت جامعاتنا العربية الاهتمام بعلم الأرشيف باعتباره المصدر الأول للكتابة التاريخية، لذا كان من الضروري العناية به لدرجة اعتباره تخصصا مستقلا في كليات الآداب والعلوم الإنسانية منذ أكثر من نصف قرن، وبالغت الجامعات لدرجة أن أصبحت تمنح فيه درجتي الماچستير والدكتوراة. وقد طرح الدكتور حسام عبد الظاهر رؤية دقيقة نشرها على صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، حينما جعل من الباحث الأرشيفي مجرد جامع للمعلومات بعيدا عن إعمال الفكر والنقد والتحليل، بينما الباحث الحقيقي في أي فرع من فروع المعرفة يتّسم نتاجه بغلبة العقل والفكر «على حد قوله»، ولعله قد حسم القضية حينما قال: الباحث الأرشيفي دون فكر يكاد يكون مجرد سجل للمعلومات، وكذا الباحث في أي علم لابد وأن يكون مفكرا، قادرا علي توظيف ما يتوصل إليه الباحث الأرشيفي من معلومات.

أعتقد أن هذه قضية جديرة باهتمام الباحثين، سواء من الأرشيفيين أو المؤرخين، شريطة أن يتخلص الجميع من التعصب كلّ في تخصصه الضيق، فالباحث الأرشيفي يقدم خدمة جليلة للباحث المؤرخ، حينما يتيح له الوصول إلى مصادر بحثه بسهولة ويسر، وفي كلّ من المجالين يصعب الاستغناء عن أحدهما، لذا فالخلل الحقيقي يكمن في انفصال أحدهما عن الآخر، وأعتقد أنه من المناسب أن تكون دراسة علوم الأرشيف جزءا رئيسا من تخصص التاريخ، فكل منهما يُكمل الآخر، وأن تكون المقررات الأرشيفية موزعة على سنوات المرحلة الجامعية، سواءً في علم التاريخ أو السياسة أو الآثار أو حتى على الاجتماع، فدراسة الأرشيف بعيدا عن هذه التخصصات تكون كمن يزرع في البحر، وخصوصًا وأن المعارف المعلوماتية في ظل الهيمنة الإلكترونية قد تجاوزت الحدود الضيقة التي هي أحوج ما تكون إلى أن يُكمل كل منهما الآخر.

القضية التي أثارها الدكتور حسام عبد الظاهر تستحق العناية، فضلًا عما قاله من ضرورة إعمال العقل والفكر سواء من جانب الأرشيفي أو المؤرخ، ففي غيبة الفكر والعقل والتحقيق والدراسة لا يمكن أن يكون العلم علما إلا بهذه القواعد المؤسسة للبحث العلمي، كل هذا يستحق العناية بكل المعارف ذات الصلة بالفكر والفلسفة، فما يُدرَّس لطلابنا في الجامعات بمعزل عن هذه التخصصات المعنية بإعمال العقل والفكر لا تنتج إلا مسخا مشوّها، حينما تقتصر الدراسة الجامعية في العلوم الإنسانية على مجرد كتاب يحفظ الطالب بعض أجزائه دون أن ندربه على أن يناقش ويحلل ويتساءل عن كل ما ورد في هذا الكتاب من معلومات، هنا يكمن دور الباحث الأرشيفي، الذي يتيح للباحث في أي فرع من فروع المعارف الإنسانية المعلومات اللازمة، وهي مهمة لا تقل عن مهمة المؤرخ الذي يناقش هذه المعلومات الأرشيفية ويحللها ويُعمل عقله فيها.

تبدو هذه القضية أكثر وضوحًا في السيل المنهمر من رسائل الماچستير والدكتوراة التي تمنحها جامعاتنا العربية، وهي مجرد معلومات كان جيلنا يقرأها بمشقة من مصادرها الورقية، أما وقد أتاحت التكنولوجيا كل هذا الكم من المعلومات على الشبكة العنكبوتية، وما على الباحث إلا أن يستدعي المادة العلمية سواء من الوثائق أو الكتب المطبوعة، دون حتى مجرد النظر والتحليل، أو إعمال الفكر فيما يتلقاه الباحث من معلومات ينتهي بها الأمر إلى مجرد النقل وترتيب المعلومات، والنتيجة كما نعلمها جميعا حالة من الفوضى في غياب الرقابة الأكاديمية الجادة. والظاهرة اللافتة للنظر أن الدراسات التاريخية في حياتنا المعاصرة لا تحظى بعناية النقاد والباحثين، وخصوصًا في رسائل الماچستير والدكتوراه التي تجد طريقها إلى النشر أحيانا سواء ما ينشر إلكترونيا أو ورقيا، لكن لا أحد يقرأ ولا أحد يتابع. ما بين علم الوثائق وعلم التاريخ يتوارى عن حياتنا الأكاديمية العناية بعلم التحقيق، وخصوصًا في المعارف التراثية سواء الفلسفية أو الدينية، التي رحنا نصدّق كل ما جاء فيها، لدرجة أدخلتنا في غياهب اللاوعي، وأصبح مجرد ذكر كلمة «تراث» يكتسب المعنى قداسة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه. وهنا تتحمل الأقسام الأكاديمية في الجامعات المسئولية التاريخية، سواء في علوم اللغة أو التاريخ أو الدين أو الفلسفة، فجميع هذه المعارف في حاجة إلى العناية بمجال التحقيق بفروعه ومناهجه، ابتداء من ضبط النص ومقارنته بنصوص أخرى وهو أمر يستحق أن يكون موضع عناية الجامعات والمراكز البحثية، التي خلت في معظمها من دراسة علم التحقيق، كمجال ينفتح على كل المعارف اللغوية والاجتماعية والإنسانية.

ليس من اللائق أن نمتلك كل هذا الكم من التراث في مختلف العلوم بينما تتجاهله جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية، لدرجة أنك لو رحت تبحث عن أستاذ يجيد تدريس هذا العلم، لشق عليك أن تجد في معظم الجامعات من يُحسن التعامل مع هذا الفيض من العلوم التراثية.

ما بين التاريخ والأرشيف وكل المعارف الإنسانية يكمن دور العقل، فهو السيد الأول لكل هذه العلوم. شكرًا للدكتور حسام عبد الظاهر الذي فتح لنا نافذة للحوار في قضية من أهم القضايا في حقل العلوم الإنسانية.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.