الأخبار السلبية.. والصحافة البطيئة
في ظل التدفق الهائل للأخبار في الأسابيع الماضية حول احتمالات أن يتحول النزاع الروسي- الغربي حول أوكرانيا إلى ما يمكن أن تكون «الحرب العالمية الثالثة»، وفي ظل الأخبار المحزنة والقاسية القادمة من مناطق الصراع في سوريا، واليمن، والأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع استمرار جائحة كورونا، إضافة إلى الأخبار المتكررة والمتشابهة حول الأزمات الاقتصادية التي تعانيها دول كثيرة في العالم، وتردي الأوضاع المعيشية في دول أخرى، واستمرار أزمات البطالة وارتفاع أسعار السلع والخدمات، وغيرها من المشكلات التي لا تنتهى إحداها إلا وتبدأ أخرى.
في ظل هذا الكم الكبير من الأخبار السلبية التي تطاردنا ليل نهار، يتضخم الشعور لدى الناس أن العالم لم يعد مكانا آمنا للعيش بسبب نشر الأخبار السيئة المستندة على إثارة الخوف، وهو ما يؤدي إلى إصابة الكثيرين بالقلق والاكتئاب نتيجة التعرض المفرط لهذه النوعية من الأخبار.
ربما يتبادر إلى ذهن البعض منا أن وسائل ومنصات الإعلام هي المسؤولة عن نشر الشعور بعدم الأمان في العالم كله، وذلك بسبب تركيزها الكبير على الأخبار السلبية، وأنها- أي هذه المنصات- يمكن أن تسهم في تغيير الحالة النفسية للبشر إن هي حدت من نشر هذه الأخبار وركزت على نشر الأخبار الإيجابية والسارة. ورغم اتفاقنا جزئيا مع هذه الرؤية، فإن السؤال هو: وهل هناك أخبار إيجابية خارج نطاق الأخبار المحلية المبهجة التي تمتلئ بها وسائل الأعلام العربية؟ واقع الحال أن الأخبار السلبية أو السيئة التي تتعلق بأحداث غير سارة مثل الأزمات والحروب والإرهاب والقتل والجريمة والتلوث والأوبئة وعدم المساواة وتعاطي المخدرات والقمع والاعتقال والتعذيب الخ هو أمر اعتادت عليه البشرية منذ الأزل، وعليه؛ لا يمكن لوسائل الإعلام أن تتجاهلها حتى إن أرادت كما أن تجاهلها لا يعني أنها لم تقع. في المقابل فإن الأخبار الإيجابية أو الجيدة التي تتعلق بأحداث سارة كبناء مدرسة أو افتتاح مستشفى أو تمهيد طريق لا تحتاج إلى رواية لأنها تعني أن الأمور تسير سيرها المعتاد. فوصول طائرة إلى وجهتها بسلامة أمر طبيعي لا يستحق أن يروى في وسائل الإعلام، بينما يمثل سقوط الطائرة أو اختطافها شيئا غير معتاد، وهو ما يستحق أن يروى رغم أنه خبر سيء. لذلك يقال دائما حتى على المستوى الشخصي «إن عدم وجود أخبار يعني أن الأمور طيبة».
وتكتسب الأخبار السلبية والسيئة أهميتها من المثل الشائع «إذا كان الخبر ينزف فإنه يتصدر»، ويعني أن وسائل الإعلام باختلاف منصاتها تفضل نشر الأخبار السيئة كأخبار الحوادث والجرائم والكوارث، لأن الناس يفضلونها على الأخبار الجيدة.
وقد كانت الأدبيات المتصلة بأخبار الشبكات التلفزيونية الأمريكية تركز على سيطرة «الأخبار السيئة» على التغطية الخبرية وتتصدر نشرات الأخبار المسائية سواء على المستوى المحلي أو القومي. وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 انتقل هذا المفهوم الأمريكي من المستوى القومي إلى المستوى العالمي، بعد أن أصبحت الشبكات التليفزيونية والإذاعية العالمية في جميع أنحاء العالم أسيرة للمخاوف المتزايدة من الحروب التي بدأت بالحرب على أفغانستان، ثم غزو العراق، والهجمات الإرهابية المضادة، ثم الحروب والصراعات والكوارث الإنسانية الجديدة في سوريا واليمن وأخيرا في أوكرانيا.
ليست وسائل الإعلام فقط هي المسؤولة عن تزايد الأخبار السيئة، فهذه الوسائل تنقل فقط ما يحدث، وما يرتكبه البشر في هذا العصر من جرائم في حق أنفسهم وحق الآخرين. فالصحافة مرآة للمجتمع، والصحافة العالمية مرآة للعالم كله. الحقيقة أن قطاعات واسعة من جمهور الإعلام تريد مثل هذه الأخبار حتى، وإن تسببت لها في الألم النفسي. ويرجع باحثون سبب وجود الكثير من الأخبار السيئة في وسائل الإعلام إلى أن غالبية الناس يرون أن الأخبار السيئة أكثر إثارة للاهتمام من الأخبار الجيدة. وكشفت دراسة شملت أكثر من 1000 شخص في 17 دولة أن الناس يهتمون بالأخبار السلبية أكثر من الأخبار الإيجابية، وأن التحيز البشري تجاه الأخبار السلبية هو ما يعزز التغطية الإخبارية السلبية. ويعود تفضيل الناس للأخبار السلبية إلى أن تجاهل المعلومات السلبية (مثل خبر قدوم عاصفة) قد يكون أكثر خطورة عليهم من تجاهل الأخبار الجيدة. وعلى هذا فإن الاهتمام الإنساني بالأخبار السلبية هو بشكل عام استراتيجية فعّالة للبقاء.
ويشير تقرير رويترز عن حالة وسائل الإعلام في العالم إلى وجود نسب مرتفعة من جماهير وسائل الإعلام في العالم تعتقد أن وسائل الإعلام تقدم أخبارا سلبية بشكل أكبر، وتتراوح هذه النسب من 59% في ألمانيا، و52% في تشيلي إلى 23% في هولندا وفنلندا و22% في سنغافورة. ولعل هذا ما يفسر تجنب نسب كبيرة أيضا من الجمهور التعرض للأخبار بشكل عام، وتتراوح هذه النسب بين 56% في كرواتيا و55% في تركيا و54% في ألمانيا، وبين 15% في الدنمارك و11% في اليابان. وتُرجع النسبة الأكبر من هؤلاء تجنبهم للأخبار إلى تأثيرها السلبي على أمزجتهم إلى جانب عدم الشعور بقدرتهم على فعل أي شيء إزاء ما يجري في العالم. وتشير دراسة أجريت على الشباب المصري إلى أن الأخبار السلبية هي الأخبار المفضلة لدى الشباب الجامعي بنسبة 33.5% تليها الأخبار الإيجابية بنسبة 24.3%. وأن أخبار «أعمال العنف الفردية والجماعية» هي أكثر الأخبار السلبية التليفزيونية التي يتعرض لها الشباب الجامعي وذلك بنسبة 64.5%.
في ظل تلك السيطرة للأخبار السيئة على وسائل الإعلام، هل ما زال هناك سوق للأخبار الإيجابية؟ بالتأكيد نعم. ولعل هذا ما دفع مؤسسات إعلامية كبيرة في العالم إلى تبني مبادرات جديدة لزيادة نشر الأخبار الإيجابية. وعلى سبيل المثال أطلقت مؤسسات إعلامية عالمية كبيرة مبادرة أسمتها مبادرة «الأخبار البطيئة» التي تعني وقف التسارع الكبير في نشر الأخبار وتدعو الإعلاميين لأخذ الوقت الكافي للبحث عن الأخبار وجمع المعلومات وتقديمها بأعلى المعايير المهنية. وأطلقت مؤسسات إعلامية أخرى مبادرة الصحافة البناءة لتكون مظلة تجمع الصحافة التي تركز على مدخل تقديم الحلول بدلا من المدخل السلبي التقليدي، وتمكن الجمهور من الاستجابة البناءة للأخبار. وقد أرجع مؤسسو هذه المبادرات ذلك إلى أن النماذج والمداخل الإخبارية التقليدية قد انهارت، وأصبح من الضروري البحث عن طرق للتغطية الخبرية ذات معنى وشاملة وأقل سلبية. في الوقت نفسه تحاول مؤسسات إخبارية أخرى سد الفجوة بين التدفق الإخباري الهائل الذي يسبب تخمة معلوماتية، وبين توفير شرح وتفسير عقلاني للأحداث والأخبار. وعلى سبيل المثال فقد قامت مجموعة فوكس الإعلامية ببناء منصة للصحافة التفسيرية تستهدف زيادة فهم الجمهور للقضايا والأحداث المعقدة.
ورغم أن الأخبار السلبية ما زالت لها مكانتها الأساسية في غالبية وسائل الإعلام العالمية، فإن تعزيز نشر الأخبار الجيدة والإيجابية قد يكون له مردود جيد على العالم وعلى الصراعات الدائرة فيه. ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الأخبار التي تواترت الأيام الماضية عن قرب التوصل إلى اتفاق بين إيران وبين القوى العالمية حول مشروعها النووي، واستبعاد شبح الحرب في أوكرانيا وكيف كان لها تأثير كبير وربما إيجابي على الأسواق العالمية. لا ضير إذن من بعض الأخبار السلبية باعتبارها محركا لمبيعات وإعلانات وسائل الإعلام، ولكن يجب أن تجاورها أخبار جيدة تبعث الأمل في نفوس الجميع، وتعيد الثقة المفقودة في عالم آمن وعادل.
حسني محمد نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس.
