اجتماعات موسكو وضرورة التوافق الفلسطيني

05 مارس 2024
05 مارس 2024

بعد أيام من التباطؤ في الموافقة من جانب حركة حماس الفلسطينية على عقد اجتماع دعت إليه وتستضيفه موسكو وتشارك فيه كل القوى والفصائل الفلسطينية بما فيها فتح وحماس، عقدت الاجتماعات بمشاركة حماس في الموعد المقرر وهو التاسع والعشرون من فبراير الماضي وذلك في مبادرة ودية من جانب موسكو من أجل الإسهام الإيجابي في إنجاح جهود بناء موقف فلسطيني موحد وقوي يكون بمثابة عنصر دعم فلسطيني مؤثر في الجهود المبذولة من جانب أطراف إقليمية ودولية للتوصّل إلى صفقة يتم من خلالها وقف القتال في قطاع غزة وتبادل دفعة أخرى من المحتجزين وربما التمهيد لهدنة طويلة قد تؤدي إلى وقف القتال كما هو مأمول قبل حلول شهر رمضان. وبينما تحتفظ موسكو بعلاقات طيبة مع حماس وفتح وعدد من الفصائل الفلسطينية منذ سنوات طويلة كمعادل موضوعي وسياسي، أيضا، للتحالف الوثيق بين أمريكا وإسرائيل من ناحية، وإدراكا من جانب موسكو لطبيعة الأوضاع الراهنة من ناحية ثانية ولحقيقة أن موسكو بحكم ثقلها وموقفها التاريخي من القضية الفلسطينية هي وحدها تقريبا الأكثر قدرة على جمع القوى والفصائل الفلسطينية معا، فإن موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أكد بدوره على أهمية مشاركة روسيا في جهود العمل للتوصل إلى حل بين حماس وإسرائيل لموازنة التأثير والدور الأمريكي المنحاز لإسرائيل بشكل قوي ومتواصل وعلى كافة المستويات. ومع انتهاء الجولة الأولى من الاجتماعات صدر بيان مشترك عن الاجتماع تضمن تسع نقاط أساسية تمت الموافقة عليها من جانب كل الفصائل المشاركة، وأكد البيان على عقد جولات أخرى من الاجتماعات للعمل على تحقيق الأهداف الفلسطينية المشتركة وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها الآتي:

أولا: إنه ليس من المبالغة القول إن اجتماعات موسكو هي من أهم الاجتماعات الفلسطينية؛ ليس فقط لأنها تأتي في الظروف الدقيقة الراهنة، وتتم برعاية روسيا وبمشاركة كل الفصائل الفلسطينية، ولكن، أيضا، لأنها تشير بوضوح إلى رغبة فلسطينية عامة لتحقيق أكبر قدر من التقارب والتوافق بين مختلف الفصائل. صحيح أنه لا يمكن افتراض اختفاء كل الخلافات والصراعات والمنافسات بين فصائل عديدة في مقدمتها فتح وحماس وذلك منذ مواجهات 2007 بينهما وسيطرة حماس عسكريا على غزة حتى الآن، ولكن الصحيح أن هناك إدراكا كبيرا وعميقا لحقيقة أن الوقت والظروف الراهنة تفرض أكثر من أي وقت مضى استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية والعمل الجاد والمخلص، بل وضرورة التضحية من أجل استعادتها كضرورة لا مناص منها سواء لما تفرضه ظروف النضال الفلسطيني، في هذه المرحلة الصعبة على المستوى الفلسطيني والعربي والإقليمي العام أو لما تتطلبه معطيات العمل المتاحة أمامه حسب ظروف كل فصيل. ومن الواضح أن الأشهر الخمسة الماضية منذ السابع من أكتوبر الماضي قد أوجدت حالة من الصحوة الفلسطينية برغم أية ملاحظات بشأن مدى مشاركة الفصائل المختلفة في المجهود الحربي في مواجهة القوات الإسرائيلية وهمجيتها وسعيها إلى تدمير قطاع غزة وحركة حماس، وتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين منه، وبرغم مختلف أساليب الإبادة الجماعية الإسرائيلية والعدد الضخم من الشهداء والجرحى الفلسطينيين فإن الفلسطينيين أظهروا قدرة وجلدا وتحمُّلا كسب تعاطف العالم وحقق خسائر بشرية وفي المعدات والأسلحة بشكل غير مسبوق في الحروب الإسرائيلية السابقة، إلى الحد الذي اشتكى منه قادة إسرائيل داخل الجيش وخارجه ويدفعهم الآن إلى إعادة النظر في عمليات إعفاء الشباب المتدينين -الحريديم- من التجنيد وهو ما سيسبب مشكلات مع حكومة نتانياهو بسبب قوة اليمينيين المتشددين ومواقفهم المنحازة لأنصارهم، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى الإسراع في انهيار حكومة نتانياهو في الفترة القادمة خاصة بعد تعدد وتنوع المشكلات والخلافات بين أبرز أعضائها.

ثانيا: إذا كانت شبكة الأنفاق الكبيرة والمتشعبة والممتدة تحت أكثر من مدينة في قطاع غزة والتي لم تتمكن إسرائيل من اكتشافها كلها حتى الآن قد خدمت الجهد العسكري لحماس والمقاومة الفلسطينية، فإن المواجهة العسكرية الشرسة على مدى الأشهر الخمسة الماضية ساعدت في الواقع على التقريب بين فتح وحماس وجعلتهما تُدركان أن استعادة الوحدة الفلسطينية وتصحيح الأطر التنظيمية والسياسية والتخلي عن أي تفكير أحادي لتحقيق مكاسب لا تخدم المشروع الفلسطيني أصبحت ضرورة تتجاوز مصالح أي فصيل بمفرده، وأنه بات ضروريا الحفاظ على الشعار التاريخي للنضال الفلسطيني والمتمثل في أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وهو ما تكرس منذ اعتراف جامعة الدول العربية بذلك وانضمام فلسطين إلى عضويتها في عام 1974 دعما للقضية وللشعب الفلسطيني. ولعل أهم مكاسب اجتماع موسكو وما تمخض عنه أن حماس أعربت عن الموافقة على التخلي عن حكم غزة بعد انتهاء الحرب الراهنة وأن الفصائل الفلسطينية المجتمعة في موسكو التقت جميعها على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي المرجعية للعمل الفلسطيني المشترك وأن حركة حماس ستنضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية وبالتالي ينفتح الباب أمام استيعاب الفصائل التي لا تزال حتى الآن خارج منظمة التحرير لأسباب معروفة، ومع الوضع في الاعتبار أن حماس فكّرت في الانضمام لمنظمة التحرير تارة ووضعت شروطا لانضمامها إليها تارة أخرى، وفكّرت في الاستئثار بحكم غزة تارة ثالثة وهو ما فاقم الخلافات بين الضفة الغربية وقطاع غزة وزاد من فرص أطراف إقليمية للتدخل لخدمة مصالحها الذاتية على حساب فلسطين والمصالح العربية بوجه عام وهو ما يعبّر عن نفسه بوضوح وفي أكثر من مجال، فإنه يمكن القول إن الحرب في قطاع غزة فرضت نتائج وضغوطا على الفصائل الفلسطينية وخاصة حماس في ظل الدعم غير المحدود لإسرائيل من جانب أمريكا والغرب ورفض واشنطن لوقف القتال في غزة لتعطي إسرائيل الفرصة الكافية لتدمير غزة وحماس حسبما أعلن نتانياهو ويتمنى.

ومع إعلان نتانياهو رفضه أي دور لحركة حماس في حكم غزة أو إدارتها بعد وقف القتال من ناحية، وفي إطار البحث عن صيغة للمستقبل يمكن التوافق عليها بالنسبة للمستقبل مع استعادة الوحدة الفلسطينية واستيعاب حماس في إطار منظمة التحرير الفلسطينية مع القيام بإصلاحات في هياكل السلطة الفلسطينية ومؤسساتها لتكون أكثر فعالية وقدرة على التفاعل مع كل المنظمات والفصائل والهياكل الجديدة التي تفرضها عملية إصلاح ضرورية وعاجلة، ظهرت في الآونة الأخيرة الدعوة لإصلاح السلطة الفلسطينية كمخرج يمكن التوافق حوله بشكل ما وبعد مناقشات وتبادل لوجهات النظر خاصة بين فتح وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وغيرها من المنظمات والفصائل الفلسطينية التي يسعى بعضها إلى مجرد حجز مكان له على طاولة الاجتماعات وضمان إدراج اسمه ضمن قائمة الفصائل الفلسطينية المعتمدة.

ثالثا: أنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ضعف السلطة الوطنية الفلسطينية والمآخذ عليها من جانب أطراف عدة فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية من جهة والحاجة إلى إطار توافق عام يجمع مختلف القوى الفلسطينية معا في المرحلة الجديدة بعد حرب غزة من جهة ثانية قد عزز في الواقع الدعوة لإصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية والمؤسسات الفلسطينية بوجه عام ليس كسبيل لتبديد الوقت والتهرب من تحقيق خطوات إيجابية وضرورية للتقارب وللارتفاع إلى مستوى المسؤولية من جانب كل الفصائل الفلسطينية في هذه الظروف التي تتمنى الفصائل استثمارها لصالحها بشكل يخدم المصالح الوطنية الفلسطينية. ولعل مما له دلالة أن تسارع السلطة الوطنية الفلسطينية إلى الترحيب بذلك خاصة بعد أن دعت إليه واشنطن وأطراف إقليمية أخرى وبينما أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني استقالة حكومته قبل أيام، فإن حماس أكدت تأييدها لتشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية وعدم المشاركة في عضويتها والتخلي كذلك عن حكم غزة بعد الحرب وهو ما يقطع الطريق على نتانياهو وواشنطن للاعتراض على مشاركة حماس بشكل ما في جهود الحل، ومن هنا تظهر أهمية وقيمة وبُعد نظر دعوة موسكو لاجتماعات تضم كل القوى الفلسطينية وتحقق مزيدا من التقارب فيما بينها، وإذا كانت اجتماعات موسكو ستستغرق وقتا بالضرورة فإن الكثير سيتوقف أيضا على إطار التوافق الذي سيتم التوصل إليه وعلى إرادة الفصائل الفلسطينية وإرادة القوى العربية والدولية الراغبة بالفعل في التوصل إلى حل عملي طال انتظاره ولعل ما يعزز الأمل أن القضية الفلسطينية هي الآن في مرحلة مختلفة يمكن الاستفادة منها إذا خلصت النوايا وتوفرت إرادة الحل لدى كل الأطراف.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري