إسرائيل وجنوب إفريقيا وفلسطين

10 يناير 2024
10 يناير 2024

خلال اليوم وغدًا ستمثل إسرائيل - لأول مرة في تاريخها - أمام محكمة العدل الدولية بهولندا (لاهاي) بناء على الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها، وهي دعوى مؤلفة من 84 صفحة تَعدّ فيها جنوب أفريقيا أن أفعال إسرائيل وقتلها للفلسطينيين أفعال «ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب».

قد تنشأ الكثير من علامات التعجب المتسائلة عن أحقية العرب برفع هذه الدعوى ضد إسرائيل أكثر من جنوب أفريقيا مثلًا، لأن كل الدول العربية أعضاء في محكمة العدل الدولية بـ «لاهاي»، لكن إذا ما تجاوزنا ذلك، لأسباب يطول شرحها، فإن ما وراء هذه الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا ما هو أبعد من طبيعة نظامها الديمقراطي الذي تسهل فيه مثل هذه الإجراءات.

الجميع يدرك بطبيعة الحال، أن قضيتي فلسطين وجنوب إفريقيا، كانتا أهم قضيتين تعبران عن وصفهما كآخر قضيتين من قضايا الضمير العالمي ذات الطابع والاستحقاق الإنسانيين.

فكل من جنوب إفريقيا وفلسطين، ليستا من قضايا الهوامش الساخنة للحرب الباردة (لبنان - اريتريا - وأفغانستان) تلك القضايا التي انتهت بنهاية الحرب الباردة، وإنما لأن فلسطين وجنوب إفريقيا ارتبطتا على نحو عضوي بقرارات دولية تتصل بأوضاع في أوروبا وبمشكلاتها الذاتية، من ناحية، وبطبيعة نموذج استعماري استيطاني من ناحية ثانية، لهذا فإن طبيعة الظلم الذي ظل يتجرعه الجنوب إفريقيين والفلسطينيون كان جرمًا يعكس طابعًا عنصريًا حادًا وقاسيًا في مراراته.

وبالرغم من أن جنوب إفريقيا قد بدأت مشوارًا في طريق التعافي من إرث الماضي، إلا أن مرارة ذلك الغبن الطويل هو الذي يجعل هذا البلد في أقصى القارة الإفريقية من أكثر الشعوب إحساسًا بمشاعر الفلسطينيين اليوم في غزة.!

قد تكون قضية الشكوى ضد إسرائيل ذات طابع رمزي، بطبيعة الحال، وقد تستغرق سنوات طويلة، ككل القضايا التي تقبع في مؤسسات المنظمة الدولية، لكنها كخطوة رمزية وأخلاقية سيكون لها أثر كبير في إحراج كثير من دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

إنها لفتة كبيرة لأهمية حضور الضمير العالمي قي القضايا الإنسانية التي لا تسقط بالنسيان، كقضية فلسطين، وكذلك تمثل تذكيرًا بضرورة الانتباه إلى الحدود الدنيا من الاتساق حيال الالتزام بالقانون الدولي الإنساني.

مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، سيخلط الكثير من الأوراق فيما يتصل بصورتها التي تسوقها عن ذاتها في الغرب، وسيعكس صورةً حقيقية أمام مرآة العالم وفي أهم المنابر العدلية الأممية، وفي هذه التعرية مكسب كبير للقضية الفلسطينية، لأنه ولأول مرة ستدرك المنابر والدوائر المؤثرة في الغرب، لاسيما المنظمات السياسية والدوائر القانونية، بأن هناك جهة أممية عدلية توجه أصابع الاتهام لإسرائيل في جرائم ضد الإنسانية، وهذا في تقديرنا تحول مهم جدًا لتلك الدوائر الغربية.

النصر الرمزي الذي سيكسبه الفلسطينيون من دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل هو نصر قابل للاستثمار في الشق السياسي والأخلاقي لقضيتهم، لاسيما في ظل الانكشاف التام اليوم لإسرائيل وهي تمارس أبشع حرب إبادة وتهجير ضد فلسطينيي غزة منذ عام 1948

في تقديرنا أن حرب غزة التي بدأت بطوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر الماضي كعملية نوعية غير مسبوقة، ستظل تراكم تداعياتها النوعية، لجهة احتمال تمدد الحرب في المنطقة، وهي تداعيات ستكون ذات صلة وثيقة بطبيعة الثمن القاسي الذي ستدفعه إسرائيل في اليوم الثاني لوقف الحرب، داخليًا وخارجيًا.

لن تكون نهاية الحرب في غزة، هذه المرة، بدون ثمن سياسي حقيقي للفلسطينيين، فالعالم كله اليوم أدرك حقائق كثيرة عن إسرائيل، لم يكن ليعرفها على هذا النحو من الوضوح لولا هذه العملية النوعية لطوفان الأقصى.

وبقدر ما كشفت عملية طوفان الأقصى طبيعة الحدود التي يمكن أن يلعبها كل لاعب في الشرق الأوسط حيال مكاسبه من قضية فلسطين، وهي حدود لم يكن ليعرفها الجميع عن الجميع بهذا الوضوح لولا الطبيعة النوعية لعملية طوفان الأقصى، فهي كذلك كشفت لإسرائيل إلى أي مكان ستنتهي غطرسة فائض القوة التي لم تختبر عدم جدواها وخساراتها كما تختبرها اليوم !

إسرائيل عالقة في فخ عملية طوفان الأقصى وتداعياتها، وتريد من العالم، في الوقت ذاته، أن يخرجها من فخ وضعته لنفسها لذا يتعين عليها أن تدفع ثمنًا حقيقًيا هذه المرة!