إرادة الشعوب... ومأزق فرنسا في النيجر !!

11 سبتمبر 2023
11 سبتمبر 2023

بالرغم من مرور نحو سبعة أسابيع على الانقلاب الذي حدث في النيجر ضد الرئيس محمد بازوم في 26 يوليو الماضي ومطالبة المجلس العسكري الحاكم في نيامي للقوات الفرنسية الموجودة في النيجر بالرحيل، إلا أن الخلافات لا تزال قائمة بينهما حول الانسحاب.

وإذا كانت خبرة الاستعمار الغربي منذ منتصف القرن الماضي على الأقل وفي العديد من الدول الإفريقية وغيرها قد شهدت عادة نوعا من الممانعة الغربية بوجه عام والفرنسية بوجه خاص في الانسحاب ومحاولة البقاء لأطول فترة ممكنة للاستمرار في استغلال الدول الإفريقية، حتى لو اقتضى الأمر الادعاء بأن بعض الدول الإفريقية هي جزء من الأراضي الفرنسية، كما حدث بالنسبة للجزائر قبل عام 1962، إلا أنها قد أخذت تتطلع إلى نيل حريتها وامتلاك ناصية قرارها الوطني والتحرر من السيطرة على موارد تلك الدول تحت زعم المساعدة في مكافحة المنظمات الإرهابية، التي تعايشت أو تتعايش في الواقع مع وجود تلك القوى الغربية، بل وتقسيم مناطق الوجود في غرب ووسط إفريقيا لتقليل الاحتكاكات فيما بينها بقدر الإمكان وليستمر وجود القوات الغربية لأطول فترة ممكنة، بغض النظر عن مصالح الدول والشعوب المتضررة، والواقع هو أن القوى الاستعمارية طورت من أدواتها وأساليب عملها لتواصل وجودها واستغلالها للدول التي لا تزال متواجدة فيها وحلت الأساليب التجارية والتعاون الأمني والارتباط مع شركات واحتكارات كبيرة وحتى تعاون تكنولوجي ولو محدود كغطاء لاستمرار العلاقات مع القوى الاستعمارية السابقة مع إضفاء صفات تنظيمية جذابة كالفرانكفونية المرتبطة مع فرنسا والأنجلوفونية المرتبطة مع بريطانيا والصيغ الثنائية بين إفريقيا وقوى إقليمية ودولية عديدة ليست كلها ذات أطماع استعمارية بالطبع وإن كانت كل منها تسعى إلى خدمة المصالح الخاصة بها والأمثلة في هذا المجال عديدة مع روسيا والصين وغيرهما.

وفي هذا الإطار فإنه قد اختلطت وتختلط الكثير من الأوراق وهو ما يتطلب الوقوف أمام بعض الجوانب لعل من أهمها، أولا، أنه في ظل الخبرة السياسية والقانونية الفرنسية، والانتصار الفرنسي الشعبي لمبادئ الثورة الفرنسية وفي مقدمتها الإرادة الشعبية أو إرادة الجماهير، باعتبارها صاحبة السلطة في النهاية، فإنه كان مثيرا للدهشة إلى حد كبير أن تنكر باريس إرادة المواطنين النيجريين وحقهم في إدارة شؤون حياتهم على النحو الذي يرونه ملائما لمصالحهم وذلك من خلال الأسلوب الذي يختارونه. غير أن المشكلة التي ثارت تمثلت في أن النظام الحاكم في النيجر برئاسة الرئيس محمد بازوم قد جاء عبر انتخابات جرت عام 2021 وفتحت المجال أمام إمكانية انتقال سلمي للسلطة في النيجر، ومعروف أن الرئيس بازوم المحتجز منذ الانقلاب ينتمي إلى الأقلية العربية التي تمثل نحو 1.5% من السكان الذين يبلغ عددهم الإجمالي نحو 2.4 مليون نسمة، وقد وجه المجلس العسكري الحاكم اتهامات بالفساد للرئيس بازوم كمبرر للانقلاب والاستيلاء على السلطة.

وإذا كان الاتحاد الإفريقي قد قرر منذ سنوات عدم الاعتراف بأنظمة الحكم التي تتولى السلطة عبر انقلابات عسكرية كوسيلة لوقف الانقلابات العسكرية في الدول الإفريقية قدر الإمكان وتحقيق قدر من الاستقرار السياسي، إلا أن هذا الأسلوب يتم تجاوزه إذا تم التوافق الداخلي حول صيغة متفق عليها بين القوى الداخلية أو التمهيد لانتخابات عامة تحقق ذلك في النهاية. وقد أشار المجلس العسكري رسميا إلى اتهامات بالعمل على الإعداد للتدخل العسكري في النيجر وحشد بعض الأسلحة والمعدات لهذا الغرض، وهو ما تم الإعلان عنه من جانب نيامي كما رفض المجلس العسكري اقتراحات وساطة تقلل المدة الانتقالية لتكون ستة أشهر فقط بدلا من مدة 3 سنوات التي اقترحها المجلس العسكري. وبينما يعمل المجلس العسكري على إعادة تنظيم مؤسسات الدولة وفق هياكل جديدة فإن دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ( إكواس ) اتخذت موقفا متشددا ضد الانقلاب منذ البداية ولوحت بالتدخل ضد الحكم الجديد وطالبت بإطلاق سراح الرئيس السابق، ثم اهتز حماسها للتدخل العسكري في النيجر بسبب خلافات بين دول (إكواس) وبسبب تكلفة الحرب وعدم اليقين بالنسبة لنتائجها ومعارضة الاتحاد الإفريقي لها أيضا. جدير بالذكر أن فرنسا المؤيدة لموقف إكواس الرافض للانقلاب تؤيد التدخل العسكري في النيجر بشرط ألا تكون وحدها ـ وأن تكون هناك جهات أخرى تمثل غطاء لهذا التدخل إذا تم، وذلك برغم نفي باريس نيتها التدخل العسكري في النيجر. وكان الكولونيل ميجور أمادو عبد الرحمن قد أعلن يوم السبت الماضي وبوضوح أن باريس تستعد للتدخل في النيجر عن طريق قوات خاصة تدخل إليها من خلال الحدود مع كل من السنغال وساحل العاج وبنين، وهو ما أعاد التوتر إلى السطح مرة أخرى أو أبقى عليه متأججا على الأقل، غير أن هذا الاحتمال يظل في إطار الشائعات أكثر منه في إطار التحرك العملي الممكن نظرا لما يحيط به من صعوبات ومخاطر تتمنى كل الأطراف تجنبها وذلك باستثناء باريس التي تحركها المصالح التي خسرتها بالفعل في النيجر منذ الانقلاب.

ثانيا، أنه برغم الحصافة الفرنسية والخبرة السياسية والقانونية لباريس إلا أن إدارتها للأزمة حتى الآن على الأقل لا تحسب لصالحها، وذلك بالنظر إلى دخولها في خطوات تصعيد حول مطالبة المجلس العسكري في نيامي بخروج السفير الفرنسي من النيجر واعتباره شخصا غير مرغوب به والمطالبة في الوقت نفسه بخروج القوات الفرنسية أيضا، وقد اتخذ الأمر شكل فعل ورد فعل مما شكل مساسا بموقف وهيبة فرنسا التي كانت النيجر بمثابة ركيزة في التعاون معها في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء لسنوات طويلة، وإذا كان ذلك يعود في جانب منه إلى خبرة التعامل الفرنسي مع الشعب النيجري ورغبته في التخلص من الوجود الفرنسي بشكل أقرب للاستعراضية والصدام الذي يزيد من شعبية المجلس العسكري بشكل ما في هذه الظروف، فإن حاجة باريس للحفاظ على بقية مصالحها وتقليل خسائرها جعلها تتذرع بمختلف المبررات للإبقاء على وجودها، وعلى وجود سفيرها «سيلفان إيتي» في نيامي حتى يتم تنظيم عملية سحب القوات الفرنسية بشكل لا يترتب عليه خسائر أو مضاعفات ليست في الحسبان ومن شأن ذلك أن يفسر قرار الرئيس الفرنسي الإبقاء على سفيره هناك برغم الضغوط الكثيرة التي يتعرض لها هو والدولة الفرنسية أيضا.

وفي هذا الإطار فإنه من المثير للانتباه أن باريس تعللت في تمسكها بعدم سحب قواتها من النيجر بأنها لا تعترف بالانقلاب العسكري وأنها تعترف فقط بالرئيس بازوم وأن الرئيس الفرنسي يجري معه اتصالات عديدة «وأي قرارات سيتخذها ستكون بناء على التواصل مع بازوم». ومن هنا فإن جدلا واسعا ومتعدد الجوانب يمكن أن يدور حول هذه النقطة خاصة وأنه لا يمكن قانونا الإبقاء على القوات الفرنسية في النيجر لمجرد عدم الاعتراف بالانقلاب ليس فقط لأن الاعتراف لا يمكن أن يرتب على أي نحو مثل هذا الحق الذي يخضع عادة لاتفاقيات ثنائية بين الدولتين بالنسبة لشروط تواجد القوات الأجنبية وحقوقها وواجباتها، ولكن أيضا لأن الاتفاقيات السابقة مع فرنسا ألغيت في ظل الانقلاب ولا يمكن الاستمرار بالاحتجاج بها بعد كل ما حدث بين نيامي وباريس في الأسابيع الأخيرة. يضاف إلى ذلك أن الحديث عمن يمثل الإرادة الوطنية يكتنفه قدر من الغموض خاصة أن الرئيس السابق محتجز منذ الانقلاب من ناحية، وأن الانقلاب يكسب شعبية عبر المعركة مع فرنسا من ناحية ثانية والتي اتخذت شكل معركة كرامة وطنية خسرت فيها فرنسا رصيدا كبيرا كان لها.

وبرغم كل ذلك فإن باريس تدرك أنه لا مناص من الانسحاب من النيجر وعبر التوصل إلى صيغة تسمح بسحب القوات والمعدات وقد تترك الباب مفتوحا أمام استئناف الاتصالات والمصالح بشكل ما في الفترة القادمة، خاصة أن باريس لا تريد أن تخسر النيجر بعد أن خسرت مالي وبوركينا فاسو وسحبت قواتها منهما من قبل. والأرجح أن العقل سينتصر لأن البديل لا يفيد لا فرنسا ولا النيجر ولا الأمن في غرب إفريقيا ولأن إرادة الشعوب تنتصر عادة في النهاية.