أمزجة الأجيال !

05 يوليو 2023
05 يوليو 2023

ربما أمكننا اليوم إدراج المقولة الشهيرة للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم» كمقياس لطبيعة التحولات التي تعترض أشكال الحياة الإنسانية في كل جيل. فحياة الناس المتغيرة دائما تعكس باستمرار ما يشبه تعبيرا ناظما بين أشكال تلك الحياة وثوابتها.

فما يسميه البعض بـ«فجوة» الأجيال، مطلقا ذلك على الأحوال المتغيرة للأجيال المجتمعية أحكاما تتغير باستمرار في قياس الاختلافات البينية التي تطرأ في ظواهر الحياة الإنسانية، هو تماما ما عنته المقولة العمرية البليغة، فالناس أكثر شبها بأزمنتهم منهم بأجدادهم، وفي ذلك دلالة واضحة للتسليم بقانون التطور والتغير الذي يحكم الحياة الإنسانية.

البعض لا يدرك تلك المتغيرات التي تحدث للأجيال، خصوصا في المنعطفات التاريخية للبشر كالثورة الاتصالية والمعلوماتية التي لا تزال تتشكل اليوم في أطوار سريعة ومتلاحقة وبصورة أصبحت بعض نماذجها تنطوي على مستقبل مخيف للبشر حيال ما يمكن أن يعد به ما سمي بالذكاء الاصطناعي من مفاجآت في المستقبل.

ويمكن القول؛ إنه إذا كانت وتيرة الحياة وإيقاعها الذي شكل انتظاما مختلفا لأطوار الحياة البشرية وتطورها منذ أقدم العصور، فقد شكل عبر الحداثة، منذ الثورة الصناعية وعصر النهضة ثم التنوير، حدثا فارقا قطع مع الإيقاع البطيء للعصور القديمة، لكن هذا التطور المختلف ذاته طبعه إيقاع عام حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومنذ بداية القرن العشرين أصبح هذا القرن قرنا حاسما في تسارع وتيرة تطور الحياة البشرية وأشكالها.

طوال تلك القرون، كان التغيير الذي يطرأ على الحياة الإنسانية للبشر كأجيال يرسم ملامح واضحة محددة لكل جيل ما تميز به لكن دون قطيعة واضحة، بل عبر تطور تتداخل فيه هويات الأشياء في سياق يمكن من خلاله فهم تعاقب الأجيال مع قدرتها على تفهم بعضها البعض، لأن المنظومة وما يسمى بإيقاع العصر كان يسم ميسمه نظم الحياة الإنسانية خلال القرن العشرين حتى العقد التاسع من ذلك القرن.

ومع بروز ثورة المعلوماتية والاتصال، والتوسع الكبير لحركة رأس المال عبر تيار العولمة، بدا من الواضح جدا أن ثمة تغييرات نوعية ومن شاكلة التحولات الكبرى في منعطفات الحياة ظهرت مع هذه الثورة الجديدة.

أصبحت وتيرة التسارع في التطور الذي صاحب ثورة المعلوماتية والاتصال تشهد قفزات نوعية في سنوات قليلة، وأحدثت آثارا غيّرت وجه العالم في الكثير من البنى الشكلية التي طبعت نمطه في القرن العشرين.

فتلك القفزات السريعة التي بدلت كثيرا من ظواهر حياة الناس في القرن العشرين وهي تجرهم جرا إلى القرن الحادي والعشرين، ظلت هي ذاتها علامة فارقة بين الأجيال بطريقة لا يمكن أن نسقط عليها أي مقياس كان معتمدا قديما لملاحظة الفروق بين الأجيال.

المقولة التي افتتحنا بها هذا المقال من قول عمر بن الخطاب، تعكس بالضبط ما نراه اليوم، فإيقاع الزمن الجامح الذي يعيشه الناس وهم يدخلون عالم القرن الحادي والعشرين في بداياته أصبح مفاجئا حتى للأجيال التي تعاصر بعضها، إلى حد بدا معه توقع ما سيحدث بعد 5 سنوات من تطور هو أمر لا يمكن الخوض فيه إلا ضمن المفاجآت!

وإذا كان كل تغيير في جيل ما يلقى صدودا وانتقادا من طرف الأجيال السابقة، لكن مع معرفتهم بالخيوط التي تربطهم ببعض. فهذه المرة مع ثورة المعلوماتية والاتصالات ستكون فجوة الأجيال أمرا بالغ الخطورة ليس بين الأجيال، بل حتى في الجيل الواحد.

ذلك أن التغييرات التي تكاد تحدث بسرعة شديدة جعلت من انقسام الأجيال الحديثة انقساما عموديا، بحيث لا يلزم بالضرورة أن يصدر الجيل الواحد ذاته عن وعي عمومي مشترك! فالتذرر الذي لعبت فيه ثورة المعلوماتية والاتصال دورا كبيرا؛ عزز الانخراط في العالم الذي جُمعت أطرافه بفعل تلك الثورة كمجموعات مختلفة، فواجهت أجيال من البشر اليوم طوفانا من المعلومات والمناهج وطرائق العمل وفن العيش وجودة الحياة وفرت أنماطا متعددة للمستهلك النشط في وسائل التواصل الاجتماعي.

وإذا ما بدت مقولة الخليفة عمر بن الخطاب عن تحولات الإنسان والزمان بذلك العمق فهي كذلك تمثل القاعدة التي تكرس ما لا يريد أن يصدقه حارسو تماثل الأجيال، لأن في الحرص على إكراه الناس واغترابهم ردود فعل خطيرة على المجتمع!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان