أقنعة الترييف كأيديولوجيا لخطاب «القَدَامة»!

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

منذ أن دخل الاستعمار في حياة المنطقة العربية في القرن التاسع عشر، تشكلت بنيات جديدة للانتظام المدني الذي جلبه لتلك المجتمعات، وكانت هوية الدولة العربية الحديثة من أهم تلك البنيات التي أسس لها الاستعمار على قياس لم يكن بالضرورة ينطوي على المبررات ذاتها لجدوى ومصير بناء الدولة -الأمة- كما حدث لدول أوروبا في معاهدة وستفاليا في عام 1648 بعد حرب الثلاثين عامًا.

لكن ما أسس له الاستعمار لم يكن فقط بناءً للدول يمكن الاستغناء عنها برحيله - كأشياء أخرى- وإنما كان من ناحية ثانية، تأسيسًا للهوية المدنية التي اخترعت أوروبا عبرها فكرة العالم الحديث كما نراه اليوم في المواثيق والمؤسسات ونظم الإدراك التي تعكس طبيعة وعينا للعالم المعاصر.

لقد كانت فكرة «المركزية» التي بدت واضحةً في المدن العاصمية لدول المنطقة العربية رمزًا جلبته المدنية السياسية لأوروبا عبر الظاهرة الاستعمارية، وكانت تلك «المركزية»، في صورة من صورها، بؤرةً شكلت مركز هوية سياسية للدولة، إلى جانب ما عبرت عنه تلك العواصم كقوة ناعمة وتأثير كبير وقوي على أطراف الدولة.

يمكن القول، اليوم، وبعد انهيار منظومة الحرب الباردة في عام 1989 التي تزامنت مع صعود ما سمي بالصحوة الإسلامية - وإن كانت الأخيرة قد سبقت انهيار الحرب الباردة بعقد من الزمان - تشكَّل في غمرة خطاب الهوية الذي أشاعته سردية الصحوة، ما عبَّرَ بعد ذلك بسنوات، عن هوية «القَدَامَة» التي هي صميم محتوى الخطاب الأيديولوجي لـ«الصحوة الإسلامية» والإسلام السياسي، وهو خطاب يعكس طبيعته الأيديولوجية تعبيرًا عن ثقافة النص (لا ثقافة التاريخ التي تستند على الخبرة العلمية بالتراث والتقليد المذهبي)، ثم لم يكن أمام طوفان «الصحوة الإسلامية» -الذي انتظم العديد من المجتمعات العربية - غير الانخراط في تعميم أدلوجة للأصالة قطعت مع ممكنات كثيرة للتطور المدني والاندماج في بنيات حياة حديثة كان الاستعمار قد وضعها كأصول يمكنها أن تطرد في تقديم قيمة معاصرة لمعنى التطور الواعي للمجتمعات العربية دون أي استيهام لعقدة الخواجة.

هذا ما فعله غاندي في الهند وقادة المؤتمر الهندي من بعده، حين أدركوا أن هناك ضرورة للتفريق بين بنيات ذات جدوى أسس لها الاستعمار لإدماج الهند في منظومة العالم الحديث، وبين مفاسد أخرى للاستعمار ينبغي تجنبها! وقد يتساءل القارئ: ما علاقة هذا الحديث بعنوان المقال الذي يتحدث عن الترييف؟ وفي تقديرنا أن خطاب «القَدَامَة» الذي أسلفنا القول في أنه محتوى الخطاب الأيديولوجي لـ«الصحوة الإسلامية» والإسلام السياسي هو الذي مثل ارتدادًا عن الهوية المدنية وعن الإيمان العام بجدوى الانخراط في العالم بالحديث بوصفنا مجتمعات عليها أن تتعلم من ذلك العالم كجزء منه لا خصمًا له.

وهكذا، فيما كان فشل الدولة العربية الحديثة يتجدد في الانسحاب من مهمة «عقلنة المجتمع» - بحسب عبدالله العروي - لينحصر في مشروعها الأمني، كان ذلك الفشل من ناحية أخرى، مسوغًا لخطاب « القَدَامَة» الذي أوهمت به «الصحوة الإسلامية» والإسلام السياسي الكثيرين في المجتمعات العربية؛ بأن ما تحتاج إليه اليوم موجود في ماضيها الزاهر، ولا حاجة لها اليوم بجدوى التأثر بالعالم المعاصر.

وبطبيعة الحال كان هذا الخطاب الهوياتي في أيدلوجيا الإسلام السياسي يمثل النقيض المؤذي لخطاب المدرسة الإصلاحية، التي كان رائداها الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وهو الخطاب الذي أجهز عليه حسن البنا بتبني خطاب الهوية المنكفئ الذي ساد مع صعود حركة الإخوان المسلمين منذ سبعينيات القرن الماضي.

وفيما كان خطاب المدرسة الإصلاحية يفَّرِق بين غرب استعماري انتهازي، وبين غرب حضاري ينبغي التعلم منه، وحَّد خطاب حسن البنا عبر أدلوجة الهوية خطابًا واحدًا يتبنى القطيعة مع الغرب بدعوى أن كل أسباب نهضة مجتمعات المسلمين تكمن فقط في ماضيها، ولأن هذا الخطاب خطاب أيديولوجي خالٍ من أي إنتاج للمعنى، كان البديل الذي ترتب عنه، ما نراه اليوم من فوضى الإرهاب منذ نهاية السبعينيات، فيما عبر هذا الخطاب في المستوى الاجتماعي عن هوية ترييف مؤدلجة عمت المدن في المنطقة العربية، ومثلت ارتدادًا توازى مع ارتداد الدولة العربية عن مهمتها في «عقلنة المجتمع».

ولعل أبرز مثال لأقنعة الترييف المؤدلجة، هو ما قام به نظام الإسلام السياسي في السودان من تسييس للقبائل والإدارات الأهلية لـ (30) عامًا ما أدى إلى اضطراب وفوضى فخخت نسيج المجتمع السوداني بالمشكلات.