أفكار غربية مقلقة.. لا يمكن إغفالها !

27 يونيو 2022
27 يونيو 2022

على مدى قرون عدة اجتذبت المنطقة العربية بوجه خاص، والحيز الجغرافي المحيط بها بوجه عام، اهتمام وتركيز مختلف القوى الدولية ذات المصالح العالمية، وفي مقدمتها القوى الغربية، ليس فقط لما تمثله هذه المنطقة من موقع استراتيجي بالغ الأهمية سواء على الصعيد الاستراتيجي أو بالنسبة لحركة التجارة العالمية، ولكن أيضًا لما تمتلكه المنطقة من موارد ومواد خام، من أهمها النفط والغاز، وبالنظر إلى أن القوى الدولية جميعها وعت منذ وقت مبكر ما يربط بين دول وشعوب المنطقة العربية من وشائج وصلات ولغة وثقافة وتقاليد ودين ومصالح مشتركة يمكن أن توحدها، أو على الأقل تجمع دولها حول أهداف مشتركة عندما تتوفر الإرادة السياسية والوعي بالمصالح المشتركة والثقة المتبادلة والقيادات القادرة على العمل معًا لتحقيق هذه المصالح، فإن مختلف القوى الدولية، دون استثناء، عملت على تحقيق مصالحها في المنطقة عبر سياسات وتكتيكات التفرقة وبث الخلافات وإيجاد وتعميق الصراعات والتنافس بين دولها وشعوبها، بما في ذلك إثارة النعرات بين شعوبها وقواها الاجتماعية والطائفية المختلفة وبكل السبل الممكنة، وكان إنشاء إسرائيل وزرعها في قلب المنطقة أحد أهم السبل في هذا المجال. وبالرغم من حركة التحرير الوطنية العربية، إلا أن التأثير والنفوذ الغربي سرعان ما عاد إلى الظهور وبأشكال مختلفة، أقل وضوحًا ولكنه أعمق تأثيرًا في مصالح وحاضر ومستقبل دول وشعوب المنطقة، ولا يمكن إلا أن يثير القلق، ما لم نتنبه له نحن كعرب ونتعامل معه على نحو يحفظ مصالحنا وأمننا الوطني والقومي في الحاضر والمستقبل، وفي منتصف يونيو الجاري عقدت ندوة على جانب كبير من الأهمية وذلك في معهد التخطيط القومي بالقاهرة، وتركزت محاور الندوة حول الرؤية الغربية للمنطقة ولمستقبلها، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى أبرز ما طرح خلال الندوة من آراء ووجهات نظر، وذلك باختصار شديد فيما يلي:

أولا: ركزت الدكتورة هبة جمال الدين وهي أستاذة مساعدة للدراسات المستقبلية في معهد التخطيط القومي، على رؤية مراكز الفكر الغربية وخاصة في أمريكا وأوروبا للمنطقة العربية ومستقبلها وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في دولها خلال السنوات القادمة. وأشارت إلى عدد من الدراسات التي نشرت في الولايات المتحدة وبريطانيا في السنوات الأخيرة وربطت بين بعضها وبين ما أشار إليه برنارد لويس منذ عدة سنوات بالنسبة للشرق الأوسط وكذلك ما أشارت إليه كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بشأن ما أسمته «الفوضى الخلاقة» ونشر الديمقراطية في دول الشرق الأوسط. وبالنظر إلى الأهمية التي تمثلها الدراسات التي تقوم بها مراكز الفكر الغربية، ومن أبرزها مؤسسة «راند» على سبيل المثال، حيث تضع خلاصات أبحاثها وتوصياتها أمام صانعي القرار، فقد قدمت الدكتورة هبة نماذج من دراسات تبشر بنهاية الدولة القومية، وبانتهاء الشرق الأوسط، ونهاية الحدود التقليدية وظهور ما يسمى بالحدود الأخطبوطية، التي تعني إمكان أن تحدد حدود دولة ما إلى ما يجاوز حدودها مع الدول المجاورة لها في ظروف، أو لاعتبارات معينة حتى ولو لم تكن تلك الدول قادرة على حماية حدودها التقليدية مثلًا، فضلًا عن دراسات وخرائط منشورة حول مستقبل دول المنطقة العربية وبعض دول الشرق الأوسط.

وتشير هذه الدراسات إلى مقترحات وتصورات لتقسيم عدد من دول المنطقة إلى دول عدة، سواء على أساس عرقي، أو على أساس طائفي، أو على أساس استدعاء خبرة التاريخ القديم، وما كانت عليه تلك الدول أو بعضها من تقسيم وتشرذم قبل اندماجها وتوحيدها، وصولًا إلى ظهور ما تسمى بدراسات السياسة وتقسيم الدول على أساس الجينات التي تتميز بها المجموعات البشرية المكونة لدولة ما، من أجل زرع بذور الفتنة والشقاق والتقسيم بين أبنائها، وأوضحت الباحثة أن الدفع الغربي لمخططات التقسيم يعتمد على تكتيكات عديدة منها استخدام وتوظيف مبادئ حقوق الإنسان، والمساواة، وحق تقرير المصير للعرقيات والمكونات القبلية والاجتماعية، ومنها سلاح الاعتراف بحركات ومطالب الاستقلال أو الحكم الذاتي، وفرض الأمر الواقع على ضوء الحروب والمواجهات المسلحة، سواء القائمة الآن في بعض دول المنطقة، أو المرشحة للحدوث في السنوات القادمة.

وفي ظل التوجه الواضح من جانب تلك الدراسات، وما يستتبعها من قرارات وخطوات سياسية تتبلور على الأرض تدريجيا، نحو تفتيت المنطقة العربية والإجهاز، أو محاولة الإجهاز على الدول القوية في المنطقة وزيادة اعتماد دولها على القوى الدولية لحماية أمنها، أو بالأحرى وجودها ذاته، ربطت الباحثة بين تلك التصورات وبين مصلحة إسرائيل والتي ستتحول، بفعل تلك المخططات التقسيمية، وعمليات التطبيع المتسارعة والمتزايدة إلى دولة مهيمنة في المنطقة، على نحو ما تأمل القيادات الإسرائيلية والأمريكية تحديدًا، بغض النظر عن المبررات أو المزاعم، أو الأهداف التي يتم الاستناد إليها لتبرير تقسيم دول المنطقة وتحويلها إلى تابع يدور في الفلك الغربي بشكل أو بآخر وبرعاية إسرائيلية ظاهرة كانت أو مستترة. وبالنظر إلى خطورة ما أشارت إليه الدكتورة هبة جمال الدين بالنسبة للمنطقة، فإنها حرصت على التأكيد على أنها تحاول قراءة تفكير مراكز الدراسات الغربية وتصورها للمنطقة ومستقبلها خلال السنوات القادمة، وأن ما تقدمه أو تفكر فيه تلك المراكز لا يعني حدوثه على الأرض بالضرورة أو بشكل حتمي.

ثانيًا: أما المتحدث الثاني في ندوة معهد التخطيط القومي بالقاهرة فكان السفير الدكتور علي حفني مساعد وزير الخارجية المصري وسفير مصر الأسبق في عدد من العواصم منها بكين، وقد تحدث الدكتور علي عن الحرب الروسية في أوكرانيا وانعكاساتها على الدول العربية وعلى النظام الإقليمي العربي، وأشاد بما أسماه الموقف المتوازن من جانب الدول العربية حيال طرفي الحرب وما قام به وفد جامعة الدول العربية من لقاءات مع وزير الخارجية الروسي في موسكو ووزير الخارجية الأوكراني في بولندا لإيضاح الموقف العربي، كما أنه أشار إلى خبرته في العمل في الصين، حيث أكد على الأسلوب المتدرّج وطويل النفس للقيادات الصينية، جيلاً وراء جيل؛ لتحقيق الأهداف والمصالح الوطنية الصينية، مؤكدًا على أن الصين لن تدخل في حرب إلا إذا تعرّضت لاعتداء أو تهددت مصالحها الوطنية وأن الصدام مع الولايات المتحدة ليس حتميًا، بغض النظر عن كل ما يُثار بهذا الشأن في وسائل الإعلام وأنه من المهم والضروري الاستفادة من التطورات الجارية لخدمة المصالح العربية وبأقل قدر ممكن من الخسائر بسبب تعقيدات الأوضاع والعلاقات الدولية وتداخل المؤثرات المختلفة بالنسبة لمساراتها الحالية والمستقبلية.

ثالثا: وبينما شعرت القاعة بقدر من التشاؤم حول ما يخطط له الغرب بالنسبة للدول العربية ومستقبلها، حسبما تطرحه دراسات المراكز البحثية الغربية، فإن الدكتور عبدالعليم محمد مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والمتخصص في الشؤون الإسرائيلية حلّق في اتجاه آخر منطلقًا من عبارة الدكتورة هبة جمال الدين من أن ما تريده مراكز الدراسات الغربية للمنطقة من تقسيم وتشرذم ليس حتميًا، حيث ركّز على الثقل الحضاري للشعوب العربية، وعلى قدرتها على استيعاب الهجمات والمخططات المعادية على امتداد تاريخها، ومقدمًا مصر نموذجًا في هذا المجال، كما أشار إلى الإمكانات والموارد العربية الكبيرة التي إذا حسن استغلالها بشكل علمي فإنها يمكن أن تضيف الكثير إلى مصادر القوة العربية. وفي الوقت الذي أكد فيه على المخاطر والتحديات الراهنة التي تتعرَّض لها الدول والشعوب العربية، وعلى ما يمكن أن تسببه من مشكلات كبيرة، فإنه راهن على الإرادة السياسية العربية، وعلى فعالية استعادة التضامن والتعاون العربي في مواجهة مختلف مخططات التقسيم والشرذمة وأشار في هذا المجال وعلى سبيل المثال إلى «صفقة القرن» التي اقترحها الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وكيف أنها سقطت ولم يعد يسمع بها أحد بسبب المعارضة الفلسطينية القوية لها، وانطلق من ذلك إلى تشخيص حالة النظام الإقليمي العربي في مرحلته الراهنة، وأن الإرادة السياسية العربية والتماسك العربي يمكنهما تعويق مخططات التقسيم المقترحة، وأنه بقدر تماسكنا العربي وقدرتنا على العمل المشترك يمكننا كعرب مواجهة ما يخططه الغرب وغيره لنا، فالمنطقة العربية ليست مساحة فارغة ولا مفتوحة على مصارعيها لكل من يريد بها سوءا ولكنها تضم شعوبا لها تاريخها وحضارتها ومصالحها وأنها قادرة على حماية تلك المصالح إذا توفرت لها القيادات المخلصة والإرادة السياسية القوية. وقد جاءت مناقشات القاعة ومداخلاتها معبِّرة عن القلق مما يريده الغرب للمنطقة ومن عمله لصالح إسرائيل، ومعبِّرة أيضا عن الثقة بأن المستقبل يعتمد علينا كعرب وعلى عملنا الجاد لحماية مصالحنا المشتركة وأنه مهما نشر الغرب ومراكز دراساته من مخططات وخرائط تقسيم فإن ذلك يظل مقترحات ومخططات عدائية ضد الدول العربية ولصالح إسرائيل بشكل أساسي، وأن تحقيقها على الأرض ليس حتميا.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري