أعمال الحرب والعقوبات ومخاطر متزايدة !!

14 مارس 2022
14 مارس 2022

إن استمرار القتال في أوكرانيا وتدمير القوات الروسية للكثير من المرافق والبنية الأساسية الأوكرانية، العسكرية والمدنية، وتمسك الرئيس الروسي بمواصلة القتال حتى تحقيق كل أهدافه التي أعلنت عنها موسكو من ناحية، واستمرار التحريض الأوكراني للغرب للتدخل ضد روسيا بأي شكل، وميل الغرب لزيادة توريط روسيا في المستنقع الأوكراني، والرغبة في زيادة الضغوط الغربية عليها، بشكل مباشر وغير مباشر من ناحية أخرى، أخذ يدفع الموقف نحو السير على منحدر يزيد من حالات التصعيد على الأرض ويزيد في الوقت ذاته من احتمالات التورط الغربي بشكل أو بآخر في الأزمة الأوكرانية بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من مخاطر. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: أنه منذ الحرب الباردة في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، ازداد استخدام اصطلاح «الحرب» لوصف العلاقات المتوترة بين دولتين أو أكثر، وذلك بالرغم من أنه لم تحدث مواجهة مسلحة بين الطرفين أو الأطراف المعنية في كثير من الأحيان. ومن ثم بات هناك ما يعرف بالحرب الباردة، والحرب الإعلامية، والحرب الاقتصادية والحرب المالية، وبالطبع العقوبات بأنواعها المختلفة، والتي يتم فرضها من جانب دولة أو قوة أو طرف دولي أو أكثر ضد طرف دولي آخر، كالعقوبات التي تم فرضها على جنوب إفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري، والعقوبات التي تم فرضها من جانب الولايات المتحدة ضد إيران وضد ليبيا في ظل العقيد القذافي من قبل وغيرها. وإذا كانت الحرب تعني بشكل أساسي الدخول في مواجهة مسلحة من جانب طرف ضد طرف آخر بسبب تضارب المصالح، أو بسبب رغبة طرف في فرض شروط، أو الحصول على تنازلات من جانب طرف آخر، وفقا لمصالحه، فإن مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومواثيق المنظمات الدولية الإقليمية كلها تمنع العدوان من حيث المبدأ، ولا تقر اللجوء إلى القوة المسلحة، ولا التهديد باستخدام القوة ضد دولة أو دول أخرى، بل وتحث على حل المنازعات بالطرق السلمية. والحالتان الوحيدتان اللتان أقر بهما ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة هما حالة الدفاع الشرعي عن النفس في حالة تعرض دولة ما للعدوان من جانب دولة أخرى، وحالة الضمان الجماعي التي تعني تضامن دولة أو مجموعة دول مع الدولة التي تعرضت للعدوان والمشاركة في الدفاع عنها، وفقا للمواثيق التي تربط بين تلك الدول وظرف العدوان على الدولة الضحية. ويدخل في نطاق حالة الضمان الجماعي، حالة تضامن المجتمع الدولي، أو الدول الرئيسة فيه للتدخل للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وبالطبع حالات حق التدخل وفق القانون الدولي الإنساني، وهي حالات تتطلب عادة العمل من خلال الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وبالضرورة إقرار وموافقة مجلس الأمن الدولي على ذلك. وبسبب التعقيدات الكثيرة المصاحبة لحالة الحرب بمعناها القانوني، فإن الكثير من الأطراف الدولية تدخل أحيانا في حالة حرب مع دولة أخرى، عبر الاعتداء على أراضيها أو إقليمها البحري والجوي أو اغتصاب مواردها بشكل ما، دون الإعلان عن الدخول في حالة حرب، لما يترتب على ذلك من نتائج قانونية وسياسية وغيرها.

وفي ظل خبرة التعامل الدولي، ومحدودية فعالية الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، اتسع نطاق الأعمال العدائية التي يمكن أن تمارسها دولة أو طرف دولي ضد دولة أخرى.

وإذا كانت الحرب تعني الاشتباك المسلح، برغم ميل البعض للتقليل من أهمية ذلك أحيانا، بالنظر إليها على أنها احتكاكات متبادلة بشكل ما، فإن الأعمال العدائية تتسع في الواقع لتشمل كل عمل يمكن أن يضر مصالح الدولة المستهدفة، بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كان سياسيا أو اقتصاديا، أو إعلاميا، أو ماليا، أو ديبلوماسيا، أو عسكريا بالطبع، وحتى نمط التصويت في المنظمات الدولية، إذ تتخذه بعض الدول مؤشرا على موقف الدول الأخرى منها ومن مصالحها وللولايات المتحدة تراث طويل في هذا المجال.

ومن ثم اتسعت وتعددت وتنوعت الأعمال العدائية بين الدول، خاصة في حالات اختلاف وتضارب المصالح، أو الرغبة في ممارسة الضغوط، وما يخفف من آثار هذه الأعمال العدائية أن الأطراف المعنية يمكن أن تتجاوزها، أو تتغاضى عنها بشكل أسهل وأسرع من أجل التوصل إلى حلول لخلافاتها ومن أجل تجنب الدفع بالعلاقات بينها نحو مزيد من التعقيد.

ثانيا: إنه إذا كانت الحرب المباشرة هي قمة أعمال القسر التي تمارسها دولة ضد دولة أخرى، خاصة في حالات الغزو، فإن الأعمال العدائية بأنواعها ومجالاتها المختلفة تدخل ضمن أعمال القسر التي تتعرض لها الدولة المستهدفة، وفي عالم اليوم وتشابك المصالح بين دوله ومجتمعاته، وازدياد حالات الاعتماد المتبادل، فإنه لم يعد ممكنا الاحتجاج بمبدأ السيادة، لأن الإضرار بمصالح الدول الأخرى وبالسلام والأمن الدوليين، أو حتى على المستويات الإقليمية ليست مسألة تخضع لإرادة أو لرغبة أو لحسابات دولة ما، عندما ترغب هي في ذلك، بغض النظر عن مصالح الأطراف الآخرين. وإذا كان النظام الدولي، قد عرف العقوبات التي يمكن أن تتخذها المنظمة الدولية أو الإقليمية ضد من ينتهك أو يتجاوز مبادئها أو قيمها من بين أعضائها، وهي عقوبات متفاوتة، فإن المنظمات الدولية ومنها الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية قد تشددت في الواقع بالنسبة للظروف التي يمكن فيها تطبيق عقوبات محددة على إحدى الدول الأعضاء، ولذا فإن الدول ذات التأثير العالمي القوي مثل الولايات المتحدة تلجأ إلى العمل من خارج الأمم المتحدة لفرض العقوبات، أو حتى الغزو ضد دول أخرى، خاصة عندما تتيقن أنه لن يمكنها ذلك من خلال الأمم المتحدة، والأمثلة في هذا المجال كثيرة وآخرها ما يحدث إزاء الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وهي خارج نطاق الأمم المتحدة، فقد لجأت واشنطن وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات عديدة ومتنوعة ضد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.

ثالثا: إنه مع الوضع في الاعتبار الجدل الكبير، السياسي والقانوني، حول العقوبات الدولية، ومدى تأثيرها على الدول التي تتعرض لها في ظرف أو آخر، خاصة وأن فعالية العقوبات وتأثيرها يتناسب طرديا مع عدد الدول المشاركة فيها ودرجة الالتزام بتطبيقها ضد الدولة المستهدفة، فإن إشكالية فرض العقوبات تظهر بوضوح في حالتين: أولهما مدى قدرة الدولة المستهدفة على التعامل مع فرض العقوبات عليها وتعويض ما تخسره، أو معظم ما تخسره بسبب العقوبات، وهذا يعتمد على قوة الدولة وعلى كفاءة وتنوع اقتصادها وعلى مدى تعاون الدول المتعاطفة معها والتي تعارض أو لا تلتزم بالعقوبات، أما الحالة الثانية فإنها تتمثل في حالة فرض العقوبات على دولة كبيرة ومؤثرة مثل روسيا فإلى جانب أنها لم تمكن مجلس الأمن من فرض عقوبات عليها، ولا حتى إدانة غزوها لأوكرانيا بسبب الفيتو الذي تتمتع به في المجلس، فإنها يمكنها أن ترد على العقوبات، حتى وإن كانت تتأثر سلبا بها، وذلك بالنظر إلى العقوبات على أنها أعمال عدائية ضدها، وأنها سترد على ذلك بشكل أو بآخر، ولذا فإنه لم يكن مصادفة أن يعلن الرئيس الروسي بوتين أن بلاده ستعتبر فرض العقوبات بمثابة أعمال عدائية ضدها، كما حذر الدول المجاورة لأوكرانيا من فتح مطاراتها للطائرات الأوكرانية لتستخدمها ضد روسيا، وينسحب ذلك أيضا على سماح بعض الدول لمواطنيها بالتطوع للحرب في أوكرانيا ضد القوات الروسية، حتى لو حمل هؤلاء صفة متطوعين أو مرتزقة.

ومما له دلالة في هذا المجال أن رئيس الأركان البريطاني أعرب عن أن السماح لمواطنين بريطانيين بالتطوع للحرب في أوكرانيا هو «أمر غير قانوني وغير مطلوب». وعلى ذلك فإنه يمكن القول إنه إذا كانت روسيا قد انتهكت قواعد القانون الدولي بغزوها أوكرانيا، برغم ما تسوقه من مبررات لحفظ أمنها، فإن التورط الغربي المتزايد في الحرب بفرض مزيد من العقوبات على روسيا، والسماح بتجنيد مرتزقة أو متطوعين للحرب ضد روسيا، وكذلك الاستمرار في تزويد أوكرانيا بأسلحة وعتاد مختلف ومتطور، والتفكير في دفع بولندا لإرسال طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا، من شأنه دفع الأزمة نحو مزيد من التصعيد والتدهور، بل والسير سريعا نحو الهاوية بتوسيع نطاق الحرب وربما الانجرار إلى مواجهات أوسع فيما بعد، وهو خطر يقع على عاتق كل الأطراف، وخاصة روسيا وأمريكا والناتو والاتحاد الأوروبي، مسؤولية العمل على منعه اليوم قبل الغد وهو ما يصب في صالح كل الأطراف..

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري